في زمن الحكم العسكري، لم تعد القوانين تُسنّ لتنظيم حياة الناس أو حماية الضعفاء، بل لترويضهم وابتزازهم ماليًا ونفسيًا.
فالتعديل الجديد على قانون الكهرباء الذي أقره مجلس الشيوخ في نظام عبد الفتاح السيسي، ليس تشريعًا لضبط السوق، بل أداة قمع مالي مغطاة بلغة قانونية، تستهدف جيوب المواطنين قبل أن تستهدف “مافيا سرقة التيار” التي تتذرّع بها الحكومة لتبرير سيف العقاب الجماعي.
القانون الذي يفرض الحبس لمدة لا تقل عن عام وغرامات تبدأ من 100 ألف جنيه وتصل إلى مليونين، يُقدَّم على أنه لحماية "المستهلك الملتزم"، لكنه في جوهره يفضح عقلية إدارة لا تبحث عن أسباب الأزمة — من احتكار وتسعير فاسد ونهب المرافق لصالح المؤسسات السيادية — بل تفضّل أسهل الحلول: تجريم المواطن بدلًا من محاسبة السلطة.
“فاشية مالية”.. الشعب يدفع ثمن امتيازات العسكر
يصف الكاتب سليم عزوز التعديل الجديد بأنه “امتداد طبيعي للفاشية المالية” التي تحكم مصر منذ الانقلاب، قائلاً: “ما يقوم به النظام ليس إصلاحًا اقتصاديًا، بل حرب استنزاف ضد المواطن. الدولة تحتكر كل الخدمات، وتضاعف أسعارها بلا شفافية، ثم تجرّم من يعجز عن الدفع. الكهرباء أصبحت وسيلة إذلال، تُستخدم كسلاح سياسي لفرض الطاعة.”
ويضيف عزوز أن الغرامات الضخمة ليست ردعًا للسارقين كما تدّعي الحكومة، بل “وسيلة تحصيل قهري لتمويل عجز الدولة ومشروعاتها الدعائية”.
فمنذ 2013، ارتفع متوسط فاتورة الكهرباء عشرة أضعاف، في حين لم تتحرك الأجور إلا بالكاد، لتتحول "الجباية" إلى المصدر الأهم لخزانة نظام يعتمد على سحق الفقراء لتمويل بذخه الأمني والعسكري.
ويشير مراقبون إلى مفارقة لافتة: فبينما يشكو ملايين المصريين من تضاعف الفواتير، تحصل مؤسسات الجيش والشرطة والمقار الأمنية والنوادي السيادية على الكهرباء والمياه مجّانًا أو بأسعار رمزية، تُرحَّل تكلفتها على سكان الأحياء نفسها.
وهكذا يدفع الفقراء فاتورة “المجانية العسكرية”، باسم الحفاظ على "منشآت الدولة".
“قانون يجرّم الفقر”.. لا مافيا كهرباء في بلد يُدار بالجيش
يقول الإعلامي والكاتب قطب العربي إن القانون الجديد جزء من سياسة ممنهجة لتجريم العجز لا معالجته: “في دولة السيسي، ليست السرقة هي الجريمة، بل الفقر. المواطن الذي يعجز عن دفع الفاتورة يدخل السجن، بينما المسؤولون الذين أهدروا مليارات على محطات عائمة ومشروعات عديمة الجدوى فوق المحاسبة.”
ويضيف أن الحكومة تتذرّع بسرقات الكهرباء لتبرير فشلها الإداري، بينما تعترف رسمياً بأن نسبة الفاقد في الشبكة تصل إلى 20%، منها 10% فقط نتيجة مخالفات المواطنين، والباقي بسبب الفساد الفني وسوء الإدارة وغياب الصيانة.
ويشير العربي إلى أن "سلطة العسكر" تخشى الشفافية لأنها ستُظهر الأرقام الحقيقية: “كم تستهلك قصور الرئاسة وثكنات الجيش؟ كم تُهدر الوزارات والهيئات السيادية من الطاقة بلا حساب؟”
لكن بدلًا من الإجابة، يختبئون خلف القوانين، يسلّطونها على الفقير، ويحمون المتنفّذ من كل مساءلة.
“انقلاب على مفهوم العدالة”.. حين يمتزج القمع السياسي بالقمع الاقتصادي
يرى د. محمد فؤاد أن المشكلة تتجاوز حدود مصر إلى فلسفة الحكم العسكري العربي التي “تستبدل السياسة بالجباية”. ويقول: “ما يجري في القاهرة يعكس نموذج الدولة الأمنية التي تعجز عن خلق الثروة فتتحول إلى جابي ضرائب للعسكر. القمع لم يعد سياسيًا فقط، بل صار اقتصاديًا مُمأسسًا.”
ويضيف أن تغليظ العقوبات على سرقة الكهرباء “يعني تجريم الحاجة ذاتها”، لأن معظم المخالفات في الأحياء الفقيرة ليست تهرّبًا أو فسادًا، بل وسيلة بقاء في ظل انهيار الأجور وتوحّش الأسعار.
ويتابع: “حين يسجن النظام جائعًا لأنه وصّل سلكًا يضيء بيته، فهذا إعلان رسمي بانتهاء العقد الاجتماعي، وبأن المواطن أصبح عبئًا على نظام لا يعتبره إنسانًا بل رقمًا في قائمة التحصيل.”
العلوي يعتبر القانون “جزءًا من مشروع الخوف” الذي تسعى المنظومة الحاكمة لتكريسه، حيث يعيش المواطن بين سجن المحتج وسجن المتعثّر ماليًا، وكلاهما وسيلتان لضمان الخضوع الكامل.
“دولة تحاسب الفقراء وتُكافئ الناهبين”
الكاتب الصحفي وائل قنديل يرى في القانون الجديد تتويجًا لنهج السلطة منذ انقلاب يوليو 2013، قائلاً: “كل قانون يُسنّ في هذه السنوات يبدأ من فرضية واحدة: الشعب متهم حتى يثبت العكس. السيسي لا يرى في المصريين شركاء وطن، بل خزينة دائمة السداد لما يخطط من صفقات وتسليح وقصور.”
ويضيف: “حين تصبح الكهرباء جريمة، والماء تهمة، والهواء خاضعًا للتسعير، ندرك أننا أمام دولة جباية لا دولة مواطنة. هذه القوانين صممت لحماية سلطة تعيش على فواتيرنا، لا لحماية الناس من سرقاتها.”
قنديل وصف مشهد تمرير القانون في مجلس الشيوخ بأنه “جزء من مسرحية الطاعة”، فكل المؤسسات صارت تُدار “كنوادٍ مغلقة للجنرالات والموالين”، بينما يغيب أي صوت شعبي حقيقي يمثل الكادحين.
“قانون الكهرباء أم قانون الإذلال؟”
القانون الأخير ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة تشريعات تعمّق فجوة السلطة والشعب: تجريم الحاجة بدل إصلاح إدارة الموارد، تغليظ الغرامات بدل محاسبة الفاسدين، وتوسيع السجون بدل بناء العدالة.
وفي الوقت الذي تحاصر فيه السلطة الصحافة والمعارضة، وتقمع كل صوت ناقد، تأتي القوانين الاقتصادية لتكمل دورة السيطرة: قمع في الشارع، وقمع في الفاتورة.
لقد صار من الطبيعي في مصر اليوم أن تُسجن لأنك عاطل، تُعاقب لأنك فقير، وتُتهم لأنك غير قادر.
وفي ظل حكمٍ لا يعرف معنى الكرامة، يصبح المواطن مجرد مصدر دخل للدولة الأمنية، لا أكثر.
يبقى السؤال الكبير بلا جواب: من الذي يسرق الكهرباء حقًا — المواطن الفقير الذي يُضئ بيته بسلك خفي، أم النظام الذي أطفأ نور العدالة في وطن بأكمله؟

