في الذكرى السنوية لانطلاق ثورة ديسمبر، التي أطاحت بنظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير، عاد الجدل السياسي والشعبي بقوة إلى المشهد السوداني، وسط اعتقالات طالت ناشطين شاركوا في فعاليات رمزية لإحياء الثورة، وتصاعد ميداني خطير في جبهات القتال، وتدهور غير مسبوق في الأوضاع الإنسانية، في بلد يرزح تحت وطأة حرب مستمرة منذ أكثر من عام ونصف العام.

 

اعتقالات تعيد الثورة إلى الواجهة

 

شهدت عدة مدن سودانية، محاولات محدودة لإحياء ذكرى الثورة عبر تجمعات صغيرة وإلقاء كلمات، غير أن هذه الفعاليات قوبلت بتدخلات أمنية أسفرت عن اعتقال عدد من الناشطين، بحسب ما أفادت به مجموعة “محامو الطوارئ”.

 

وأكدت المجموعة، في بيان، اعتقال الناشط منيب عبد العزيز في الولاية الشمالية، عقب إلقائه كلمة أمام أحد المساجد، دعا فيها إلى حل جميع المليشيات وبناء جيش مهني قومي بعيد عن السياسة، مشددًا على ضرورة حكم المدنيين للبلاد، ومرددًا شعارات الثورة الأساسية: “حرية، سلام، عدالة”.

 

واعتبرت المجموعة أن هذه الاعتقالات جاءت على خلفية الأنشطة المرتبطة بإحياء ذكرى الثورة، ما أعاد إلى الأذهان أسئلة قديمة حول هامش الحريات العامة ومستقبل المسار الديمقراطي في السودان.

 

تفاعل شعبي وانقسام في الرأي العام

 

أثار نبأ الاعتقالات موجة واسعة من التفاعل على المنصات الرقمية، حيث عبّر مدونون وناشطون عن مواقف متباينة عكست حالة الاستقطاب التي يعيشها المجتمع السوداني في ظل الحرب.

 

فبينما رأى البعض أن اعتقال الناشطين يمثل انتهاكًا صارخًا لحق التعبير السلمي، اعتبر آخرون أن توقيت هذه التحركات غير مناسب في ظل حرب مدمرة ونزوح واسع. وذهب فريق ثالث إلى ربط ما يجري بمحاولات طمس إرث الثورة وإقصاء قواها المدنية من المشهد السياسي.

 

تحذير حكومي وجدال جديد

 

في خضم هذا الجدل، نشر وزير الثقافة والإعلام والسياحة خالد الإعيسر تدوينة حذر فيها مما وصفه بالتلاعب بمصير الدولة والشعب، مؤكدًا أن الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق عبر ممارسات تزيد من الفوضى أو تهدد وحدة المجتمع.

 

وأضاف أن رفع شعارات الديمقراطية دون الالتزام بممارستها المسؤولة قد يحولها إلى أداة لزعزعة الاستقرار، وهو ما اعتبره عدد من المدونين تبريرًا غير مباشر للاعتقالات، بينما دعا آخرون إلى التهدئة وتغليب العقلانية في ظرف وطني بالغ الحساسية.

 

تصعيد عسكري وسقوط ضحايا

 

على الصعيد الميداني، تواصلت التطورات الدامية، حيث أفادت مصادر طبية بمقتل 10 أشخاص جراء قصف بطائرة مسيّرة استهدف سوقًا في منطقة المالحة بولاية شمال دارفور، في حادثة تعكس اتساع رقعة استهداف المدنيين.

 

وفي جنوب كردفان، أعلن الجيش السوداني تنفيذ ضربات جوية ضد مواقع لقوات الدعم السريع المدعومة من الإمارات في بلدة برنو شمال غربي كادقلي، بعد إعلان الدعم السريع سيطرتها على البلدة، في وقت تشهد فيه الولاية معارك عنيفة وتحاصر قوات الدعم السريع، المتحالفة مع الحركة الشعبية–جناح الشمال، مدينتي كادقلي والدلنج.

 

كردفان في قلب المعركة

 

تُعد ولايات إقليم كردفان إحدى أبرز ساحات الصراع حاليًا، نظرًا لموقعها الإستراتيجي وثرواتها الطبيعية. وتحذر تقارير أممية من أن استمرار القتال قد يؤدي إلى نزوح ما بين 90 ألفًا و100 ألف شخص من كادقلي وحدها، إضافة إلى تأثر نحو نصف مليون شخص في مدينة الأُبيّض بولاية شمال كردفان.

 

وأكدت المنظمة الدولية للهجرة فرار أكثر من 100 ألف شخص من مدينة الفاشر والقرى المحيطة بها، فيما لا يزال آلاف المدنيين عالقين في مناطق الاشتباكات، وسط صعوبات بالغة في إيصال المساعدات.

 

أزمة إنسانية تتفاقم

 

تزامن التصعيد العسكري مع تفاقم الأزمة الإنسانية، حيث ارتفع عدد النازحين من منطقة هجليج بولاية غرب كردفان إلى مدينة كوستي بولاية النيل الأبيض إلى نحو 1700 نازح، معظمهم من النساء والأطفال.

 

وحذّرت مفوضة العون الإنساني بولاية النيل الأبيض من نقص حاد في الغذاء داخل معسكرات النزوح، في وقت أعلن فيه برنامج الأغذية العالمي عزمه خفض حصص الغذاء بنسبة 70% اعتبارًا من يناير المقبل بسبب نقص التمويل.

 

وتشير تقديرات أممية إلى أن أكثر من 33 مليون شخص سيحتاجون إلى مساعدات إنسانية في السودان خلال عام 2026، بينما تجاوز عدد النازحين واللاجئين 13 مليون شخص داخل البلاد وخارجها.

 

دعوات دولية للهدنة

 

سياسيًا، دعت الولايات المتحدة إلى التوصل لهدنة إنسانية مع اقتراب العام الجديد، معتبرة أن الأعياد تمثل فرصة لوقف القتال والسماح بإيصال المساعدات. كما أشار مسؤولون أميركيون إلى دور الأطراف الخارجية في تأجيج الصراع عبر تزويد الأطراف المتحاربة بالسلاح.

 

وفي السياق نفسه، شدد الاتحاد الأفريقي على رفضه للانتهاكات بحق المدنيين، مؤكدًا دعمه لوحدة السودان وسيادته، وداعيًا إلى حل سياسي شامل عبر حوار وطني.

 

حرب بلا أفق واضح

 

ومنذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، قُتل عشرات الآلاف، وتشرد الملايين، وانهارت مقومات الحياة في أجزاء واسعة من البلاد.

 

وبينما تتصاعد الأصوات المطالبة بوقف الحرب، لا تزال المعارك والاعتقالات والاتهامات المتبادلة ترسم مشهدًا معقدًا، يختلط فيه إرث الثورة بواقع السلاح، ويزداد فيه ثمن الصراع الذي يدفعه المدنيون يومًا بعد يوم.