بينما يواصل إعلام النظام العزف على وتر "الوطنية" الزائفة، وتخوين كل من يجرؤ على نقد "الجمهورية الجديدة"، تكشف الوثائق والأرقام عن مفارقة تاريخية لا يمكن طمسها.
فبين "خطاب بروتوكولي" للرئيس الشهيد محمد مرسي أقام الدنيا ولم يقعدها، وبين صفقات غاز مليارية وقّعها عبد الفتاح السيسي مع الاحتلال الإسرائيلي وهو "مغمض العينين"، يظهر الفارق الجلي بين رئيس منتخب كان يرى في إسرائيل عدواً استراتيجياً يجب تحجيمه، وبين جنرال يرى فيها شريكاً وحليفاً لا غنى عنه للبقاء. في هذا التقرير، نفتح ملف العلاقات المصرية الإسرائيلية بين عهدين: عهد حاول استعادة الكرامة، وآخر رهن مستقبل مصر لرضا تل أبيب.
أكذوبة "عزيزي بيريز": بروتوكول دبلوماسي أم خيانة وطنية؟
لا يزال إعلام النظام يلوك حتى اليوم قصة خطاب اعتماد السفير المصري لدى الاحتلال في عهد الرئيس مرسي، والذي بدأ بعبارة "عزيزي بيريز"، متخذاً منه دليلاً على "تطبيع الإخوان". لكن الحقيقة التي يكشفها المستشار السابق للرئيس، د. ياسر علي، والعديد من الخبراء الدبلوماسيين، تؤكد أن الخطاب كان صيغة بروتوكولية جامدة موحدة تُرسل لكل دول العالم دون تغيير حرف واحد، ولم يكتبه الرئيس بيده بل أعدته الخارجية المصرية.
ويرى المحلل السياسي سيف الدين عبد الفتاح أن الهجوم الشرس على مرسي بسبب هذا الخطاب كان "نفاقاً سياسياً فجاً"، فبينما كان الإعلام يحاسب الرئيس على "كلمة" في ورقة رسمية، كان يتجاهل الفعل الحقيقي لمرسي على الأرض.
ففي عهده، ولأول مرة، سحبت مصر سفيرها من تل أبيب فور العدوان على غزة عام 2012، وأرسل رئيس وزرائه هشام قنديل إلى القطاع تحت القصف ليعلن من هناك: "لن نترك غزة وحدها". هذا الموقف العملي، بحسب عبد الفتاح، هو الذي أرعب إسرائيل ودفعها للضغط من أجل إسقاطه، لأنها أدركت أن "عزيزي بيريز" كانت حبراً على ورق، بينما "صواريخ المقاومة" التي حماها مرسي كانت هي الواقع الجديد.
السيسي والغاز: رهن الأمن القومي لـ "شريك" استراتيجي
في المقابل، وبعد سنوات من التخوين، جاء السيسي ليقدم لإسرائيل ما لم تكن تحلم به في أجرأ أحلامها: التحول من "عدو" إلى "مركز طاقة إقليمي" عبر بوابة مصر. يصف الخبير في شؤون الطاقة د. نائل الشافعي صفقة الغاز المليارية التي وقعها النظام بأنها "كارثة استراتيجية مكتملة الأركان"، حيث ربطت مصر أمنها الطاقي بـ "محبس" في يد الاحتلال.
ويشير الشافعي إلى أن السيسي لم يكتفِ باستيراد الغاز الفلسطيني المسروق، بل حول مصر إلى مجرد "ممر" لتسييل الغاز الإسرائيلي وتصديره لأوروبا، مما منح تل أبيب نفوذًا هائلاً على الاقتصاد المصري.
وفي تعليقه على تصريح السيسي بأنه وقع الصفقة وهو "مغمض"، يقول الشافعي: "هذا الإغماض لم يكن عن التفاصيل الفنية، بل كان إغماضاً عن الأمن القومي المصري، وعن دماء الشهداء الذين حاربوا هذا الكيان. لقد جعل السيسي من إسرائيل (شريكاً لا غنى عنه) في الإضاءة والتشغيل، وهو ما يعني أن أي قرار سياسي مصري مستقبلاً سيكون مرهوناً برضا تل أبيب".
غزة كاشفة العورات: بين "لبيك يا قدس" و"تصفية القضية"
الفارق الأكثر حدة يظهر في التعامل مع "الخاصرة الرخوة" لمصر: قطاع غزة. يؤكد الباحث في الشؤون الإسرائيلية د. صالح النعامي أن فترة مرسي كانت "الكابوس الأكبر" للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، ليس فقط بسبب فتح المعابر، بل بسبب "العقيدة السياسية" التي تبناها الرجل. ويذكر النعامي كيف هتف مرسي في قفص المحكمة "لبيك يا قدس"، وكيف رفض أي ضغوط أمريكية لعزل حماس.
أما في عهد السيسي، فيرى النعامي أن التنسيق الأمني وصل إلى مستويات غير مسبوقة، حيث لعب النظام المصري دور "السجان" بامتياز، مغلقاً معبر رفح بشكل شبه دائم، ومشيداً الجدران العازلة، بل والمشاركة في حصار المقاومة تحت ذريعة "مكافحة الإرهاب".
ويضيف النعامي: "السيسي لم يبع الغاز فقط، بل باع الدور المصري في القضية الفلسطينية، محولاً القاهرة من (وسيط نزيه) أو (ظهير استراتيجي) إلى (سمسار) ينقل الشروط الإسرائيلية للمقاومة، ويضغط على الضحية لصالح الجلاد، مقابل صمت دولي عن انتهاكات حقوق الإنسان في الداخل".
الخلاصة، كما يراها هؤلاء الخبراء، هي أن مرسي دفع حياته ثمناً لمحاولته تحرير القرار المصري من التبعية، بينما يشتري السيسي بقاءه في السلطة بمزيد من التبعية والارتهان للمشروع الصهيوني، محولاً "السلام البارد" إلى "تحالف دافئ" يدفع المصريون ثمنه من سيادتهم وكرامتهم.

