مرة أخرى، تتحول نتائج القبول بالكليات العسكرية والشرطة في مصر من مناسبة للاحتفاء بالكفاءات الشابة إلى فضيحة سنوية مدوية، تكشف عن وجه نظام يصر على ترسيخ الطبقية والمحسوبية كأدوات أساسية لإدارة الدولة.
فبينما كانت القيادة السياسية، تروّج لـ"منظومة مميكنة" تضمن "الشفافية المطلقة" و"تكافؤ الفرص"، كانت صفحات التواصل الاجتماعي تضج بتهاني نواب برلمان ورجال أعمال لأبنائهم وأقاربهم، في استعراض فجّ للنفوذ والسلطة، ليُطرح السؤال المرير: هل أصبحت هذه المؤسسات السيادية حكرًا على "أبناء الذوات" ومن يدور في فلك السلطة؟
ويُظهر الرصد الدقيق للنتائج المعلنة مؤخراً استمرار ما وصفه مراقبون بـ"فضيحة كل سنة"، حيث يتصدر أصحاب الواسطة وأبناء النواب قوائم المقبولين، في مشهد يعيد إنتاج دولة المحسوبية بأبشع صورها.
ويحلل الإعلامي أسامة جاويش هذا المشهد، مشيراً إلى أن النظام يستبعد عمدًا أصحاب الكفاءات ليفسح المجال لأبناء المسؤولين، ليس فقط كمكافأة لولاء آبائهم، بل كاستثمار في بناء جيل جديد من الضباط يدين بالفضل والولاء للنظام الحاكم بشكل شخصي، وليس للوطن ومؤسساته، وهو ما يمكن متابعته بالتفصيل في المقطع التالي:
أسامة جاويش: فضيحة كل سنة.. أصحاب الواسطة وأبناء النواب في صدارة المقبولين بالكليات العسكرية!! pic.twitter.com/O0QUZ9G0y7
— قنــــاة مكملين - الرسمية (@MekameleenMk) December 17, 2025
حصاد "مستقبل وطن": مكافآت الولاء مقاعد في مؤسسات الدولة
لم تكن قوائم المقبولين هذا العام مجرد أرقام عشوائية، بل كانت أشبه بكشوف مكافآت سياسية. يكشف تقرير لـ"العربي الجديد" عن قبول 19 من أبناء أعضاء مجلس النواب، و5 من أبناء أعضاء مجلس الشيوخ، معظمهم ينتمون لحزب "مستقبل وطن"، الذراع السياسية للنظام .
هذه الأرقام، التي تمثل غيضًا من فيض، تؤكد أن عضوية الحزب الحاكم أو القرب من دوائره لم تعد تقتصر على المزايا السياسية، بل امتدت لتصبح تذكرة عبور مضمونة لأبنائهم نحو أكثر المناصب حساسية في الدولة.
والأدهى من ذلك هو محاولة التعتيم على الفضيحة؛ حيث نبهت الأمانة العامة لمجلسي النواب والشيوخ على الأعضاء بعدم نشر التهاني "تفاديًا لإثارة البلبلة" .
هذا التوجيه ليس حرصًا على مشاعر غير المقبولين، بل هو اعتراف ضمني بالجريمة ومحاولة يائسة لإخفاء واقع المحسوبية الذي لم يعد يخفى على أحد. إنها عملية ممنهجة لضمان استمرار طبقة حاكمة تورث المناصب والمزايا لأبنائها، وتحول المؤسسات العسكرية والشرطية إلى إقطاعيات عائلية مغلقة.
"أبو تشت مركز العائلات": حين تفضح الجغرافيا فساد المنظومة
لم يقتصر الأمر على المحسوبية الفردية، بل امتد ليأخذ أبعادًا جغرافية وعائلية فاضحة. مقطع الفيديو الذي انتشر كالنار في الهشيم لاحتفالات صاخبة في محطة قطار "أبو تشت" بمحافظة قنا، والذي يزعم قبول 55 شابًا من المركز في كلية الشرطة وحدها، لم يكن مجرد احتفال، بل كان إعلانًا عن سقوط آخر أقنعة "العدالة" و"تكافؤ الفرص" .
وصف الفيديو للمركز بأنه "مركز العائلات" لم يأتِ من فراغ، بل هو تجسيد لواقع تتحكم فيه العائلات الكبرى ذات النفوذ في مصير أبنائها على حساب آلاف المتقدمين الآخرين.
هذه الواقعة تضرب في الصميم رواية النظام عن "الاختيار الآلي" الذي لا يتدخل فيه عنصر بشري، والتي رددها وزير الداخلية ورئيس الجمهورية . فكيف يمكن لنظام مميكن وموضوعي أن ينتج عنه هذا التركيز الجغرافي الصارخ؟ الإجابة واضحة: المنظومة المميكنة ما هي إلا واجهة شكلية تخفي خلفها نظامًا عميقًا من المحاصصة وتوزيع الغنائم على أساس الولاءات العائلية والقبلية، وليس على أساس الكفاءة.
بيانات التحذير الرسمية: إرهاب المقبولين لإخفاء الحقيقة
أمام هذا السيل من الفضائح، جاء رد فعل المؤسسات الرسمية ليكمل مسرحية العبث. فبدلاً من التحقيق في مزاعم الفساد، لجأت كل من وزارة الداخلية والأكاديمية العسكرية إلى إصدار بيانات تحذير وتهديد. بيان وزارة الداخلية الذي حذر من "التشكيك" في النتائج، مع تأكيدها على شفافية الإجراءات، بدا كأنه محاولة لغسل سمعة ملطخة بالواقع .
أما بيان الأكاديمية العسكرية فكان أكثر قمعية، حيث لم يكتفِ بتحذير الطلاب المقبولين من نشر أي شيء يتعلق بقبولهم، بل وصل إلى حد تهديدهم بإلغاء القبول حال مخالفة التعليمات . هذا الإجراء لا يهدف إلى فرض "الانضباط العسكري"، بل هو أداة لإسكات الضحايا والشهود، ومنع خروج المزيد من الأدلة التي تدين المنظومة بأكملها. إنه إرهاب للمقبولين أنفسهم لضمان عدم فضح الطريقة التي قُبلوا بها، في مشهد يؤكد أن النظام لا يخشى شيئًا قدر خشيته من الحقيقة.

