مرة أخرى، يدفع البسطاء من دمائهم وأرزاقهم ثمن الفوضى وغياب الرقابة في "جمهورية الإهمال". حادث انفجار عقار إمبابة المروع، الذي حول ليل المنطقة الشعبية إلى جحيم، وأحال منازل وسيارات المواطنين إلى ركام، ليس مجرد قضاء وقدر، بل هو جريمة دولة تخلت عن دورها في تأمين مواطنيها، وتركتهم فريسة للعشوائية واسطوانات الغاز المتهالكة والبنية التحتية المعدومة.
وبينما يقف المتضررون على أطلال بيوتهم وسياراتهم المدمرة – وهي مصدر رزقهم الوحيد – يطالبون بتعويض، تقف الحكومة موقف المتفرج أو الباحث عن "شماعة" تعلق عليها فشلها، مكتفية بتصريحات روتينية عن "اسطوانة بوتاجاز غير مرخصة"، وكأن هذا يعفيها من مسؤولية ترك الأسواق تغرق في السلع المغشوشة وغياب إجراءات السلامة في الأحياء المكتظة.
"عربيتي مصدر أكل عيشي".. صرخات في وادٍ أصم
شهادات الضحايا تقطر ألمًا ومرارة. مواطن كان ذاهبًا للصلاة ليعود فيجد "شقى عمره" قد تبخر. سيارة مدمرة كانت تعيل أسرة، وشقة تصدعت جدرانها وأصبحت غير صالحة للسكن. هؤلاء ليسوا أرقامًا في محاضر الشرطة، بل هم ضحايا نظام اقتصادي واجتماعي طحنهم.
مطالباتهم بالتعويض ليست "منحة" يستجدونها، بل حق أصيل. لكن في دولة الانقلاب، التي تنفق المليارات على المؤتمرات والاحتفالات، يصبح تعويض مواطن غلبان عن سيارته المدمرة "عبئًا" لا تلتفت إليه الحكومة. أين صناديق الكوارث؟ أين دور المحافظة؟ أين وزارة التضامن؟ الكل يختفي عند الدفع، ويظهر فقط عند "اللقطة" أمام الكاميرات.
شماعة "الأسطوانة غير المرخصة".. الهروب من المسؤولية
سارعت المصادر المسؤولة بقطاع الغاز الطبيعي لترجيح سبب الانفجار إلى "اسطوانة بوتاجاز صغيرة غير مرخصة". هذا التبرير الجاهز هو أسهل طريق لغسل يد الحكومة من الدماء.
السؤال الحقيقي الذي يجب أن يوجه للحكومة: من الذي سمح بانتشار هذه الأسطوانات غير المطابقة للمواصفات؟ من المسؤول عن التفتيش على ورش التعبئة العشوائية؟ من الذي ترك أهالي إمبابة ومناطق الفقراء يعيشون فوق "قنابل موقوتة" لسنوات؟
إلقاء اللوم على الضحية أو على "مجهول" هو استراتيجية النظام المعتادة للتنصل من المسؤولية السياسية والجنائية عن هذه الكوارث المتكررة.
إمبابة.. نموذج لـ"مصر المنسية"
ما حدث في إمبابة ليس استثناءً، بل هو القاعدة في المناطق الشعبية التي أسقطها النظام من حساباته، إلا عند الجباية أو عند الرغبة في إزالتها لبيع أراضيها للمستثمرين. غياب شبكات الأمان، تهالك المباني، فوضى التراخيص، وانعدام الرقابة.. كلها عوامل حولت هذه الأحياء إلى حقول ألغام.
المواطن في هذه المناطق يعيش بـ"البركة"، ينتظر دوره في كارثة قادمة، سواء كانت انهيار عقار، أو حريق، أو انفجار. والدولة لا تتدخل إلا لرفع الأنقاض وإحصاء الجثث، ثم تعود لتغفو حتى الكارثة التالية.
حقوق ضائعة وعدالة غائبة
إن صرخات متضرري انفجار إمبابة المطالبة بالتعويض ستظل تطارد هذا النظام. فمن دمرت سيارته فقد مصدر رزقه، ومن تصدع منزله فقد أمانه.
حكومة السيسي التي تتباهى بالمدن الذكية والأبراج الشاهقة، تفشل بامتياز في حماية "الغلابة" في حارات إمبابة. ولن يرحم التاريخ نظامًا ترك شعبه بين خيارين: الموت جوعًا أو الموت تحت الأنقاض، ثم بخل عليهم حتى بـ"ثمن الكفن" أو تعويض يستر ما تبقى من حياتهم.

