المشهد الذي نقلته جولة الإعادة في دوائر الجيزة ليس انتخابات حقيقية، بل ساحة فارغة تحاول السلطة ملأها بطوابير مصطنعة ورشاوى انتخابية. صناديق بلا ناخبين، ومال سياسي يتحرك في الشوارع والسرادقات والشقق، هذه هي "الديمقراطية" في ظل حكم الانقلاب.

 

انتخابات بلا ناخبين

 

اختفاء الناخبين عن اللجان في الدقي والجيزة وبولاق والعمرانية والطالبية جعل اليوم الثاني لإعادة الانتخابات نسخة أكثر فراغًا من اليوم الأول، رغم أنّ هذه الدوائر أُعيدت بقرار من المحكمة الإدارية العليا بدعوى تصحيح الخروقات وتحقيق النزاهة.

 

مدارس كاملة تحولت إلى نقاط أمنية صامتة، لا يدخلها سوى أفراد معدودين خلال نصف ساعة أو أكثر، وصناديق اقتراع شبه خالية وفق شهادة ناخبين ورؤساء لجان فرعية، بينما تستمر الدولة في بث خطاب "المشاركة الإيجابية" وكأن الناس تعيش في بلد آخر.
 

 

الطوابير المصطنعة بدل الإرادة الحقيقية

 

في غياب الناخبين الحقيقيين، عادت ظاهرة الطوابير المصطنعة أمام مدارس مثل الشهيد عامر عبد المقصود وجمال عبد الناصر بالدقي؛ عشرات الشباب والفتيات يقفون في صفوف منتظمة، يعرفون بعضهم جيدًا، ولا يتحركون نحو اللجان، في استعراض بصري موجه للكاميرات لا للصندوق.

 

حافلات وميكروباصات تنقل النساء إلى مداخل الشوارع المحيطة باللجان "عشان محدش يعملنا مشكلة"، وأعلام صغيرة توزَّع على السيدات أمام اللجان لتجميل الصورة، بينما تبقى الحقيقة أن أغلب الأهالي قرروا المقاطعة أو بيع الصوت عند أقرب نقطة شراء بدلاً من التصويت عن اقتناع.

 

حشد منظم وشراء أصوات بالجملة

 

في بولاق الدكرور والعمرانية والطالبية، تواصلت عمليات الحشد بسيارات ميكروباص وتكاتك تحمل صور المرشحين أو رموزهم الانتخابية وأرقامهم، فيما تجمّعت عشرات النساء والرجال خلف وحدات صحية ومدارس يحملون أوراقًا مطبوعًا عليها بياناتهم الانتخابية كاملة، في مشهد يختصر كيف يُدار الناخب كـ"ملف" لا كمواطن.

 

شهادات الأهالي وأصحاب المحال المحيطة باللجان تتحدث عن أسعار وصلت إلى 350 جنيهًا للصوت لصالح مرشحين مستقلين، و200 جنيهًا وكرتونة مواد غذائية لصالح مرشح حزب "حماة وطن" وآخر من حزب العدل المحسوبَين على معسكر السلطة، مع انتقال عملية الشراء من الشارع إلى الشقق المغلقة بعد مداهمات شكلية في اليوم الأول.
 

 

هيئة انتخابات وداخلية.. شريك لا رقيب

 

رغم أن المرحلة الأولى السابقة شهدت خروقات جسيمة من شراء أصوات وتوجيه ناخبين وعدم إرسال محاضر فرز، دفعت المحكمة الإدارية العليا والهيئة الوطنية لإلغاء نتيجة 68.5% من دوائرها، فإن الإعادة لم تُصلح شيئًا جوهريًا، بل أعادت إنتاج الأساليب نفسها مع قليل من التجميل وتقليل الفجاجة العلنية.

 

الشرطة تطرد بعض مندوبي المرشحين من داخل مقرات الاقتراع بحجة عدم حمل التصاريح اللازمة، لكنها لا تمنع في المقابل تدفّق المال السياسي في محيط اللجان، ولا توقف حافلات الحشد، ولا تغلق "شقق شراء الأصوات" التي تحوّلت إلى سر جديد يعرفه كل سكان الأحياء الشعبية.

 

برلمان يُصنع في الميكروباص لا في الصندوق

 

الأرقام المتداولة من رؤساء اللجان الفرعية عن مئات فقط من المصوّتين من بين عشرات الآلاف المقيدين في الكشوف، تكشف أن الشرعية السياسية لهذا البرلمان مفقودة حتى قبل أن يُعلن عن النتيجة رسميًا.

 

برلمان يُصنع بأموال المرشحين المتحالفين مع السلطة، وبحملات حزبية تابعة لمعسكر الانقلاب، وبحشد الفقراء مقابل فتات نقدي وكرتونات غذاء، لن يمثل إلا من موّلوه، ولن يكون سوى أداة إضافية لتمرير ما تريده السلطة التنفيذية، بينما يبقى الشعب غائبًا عن المعادلة، إما مقاطعًا أو مُستغلًا في سوق الأصوات الرخيصة.