ربما لا ينافس الكشري في شعبيته وشهرته الواسعة التي تعدت حدود مصر سوى الفول والطعمية، الوجبة الشعبية الأولى على المائدة المصرية.
وقد أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) الكشري أخيرًا ضمن قائمتها للتراث الثقافي غير المادي لعام 2025، وهو ما يمنح هذه الوجبة الشعبية شهرة عالمية إضافية، تؤكد على عمقها في الأكل التراثي المصري.
ونادرًا ما تخلو منطقة في مصر من مطعم أو عربة لبيع الكشري، وهو عبارة عن وجبة متكاملة تتكون من الأرز، العدس، والبصل، والحمص، والمكرونة، وصلصلة الطماطم. وهي وجبة صحية، نظرًا لأن العدس، مصدر ممتاز للألياف، وصلصة الطماطم غنية بفيتامين سي، مما يجعله خيارًا مثاليًا للرياضيين.
يُطهى العدس والأرز على نار هادئة حتى ينضجا تمامًا، بينما تُسلق المكرونة وتُتبّل صلصة الطماطم بمزيج من الكمون والكزبرة والثوم، ويتم تزيين الطبق بالبصل المقرمش. هذا التناغم بين النكهات والقوام يمنح الكشري طعمه ورائحته المميزة.
أصل الكشري
وعلى الرغم من شعبيته الهائلة إلا أنه لا يوجد إجماع بين المعنيين بتوثيق الأكلات المصرية الشهيرة حول أصل الكشري، فهناك من يؤكد أن أصله ليس مصريًا.
هناك من يرجعه إلى منتصف القرن التاسع عشر، بالتزامن مع الاحتلال البريطاني لمصر، حيث يُعتقد أن جذور الكشري تعود إلى الهند، فكلمة "كشري" مشتقة من الكلمة الهندوسية "خيتشري"، والتي تعني طبق الأرز والعدس. وقد جلبه البريطانيون إلى مصر عند وصولهم أواخر القرن التاسع عشر. ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبح طبقًا مصريًا بامتياز.
وفي عام 1853م، وثّق المستشرق ريتشارد بيرتون في كتابه "رحلة إلى مصر والحجاز" الكشري كوجبة إفطار لأهل السويس. وكانت الوجبة تتكون من العدس والأرز والزبدة والبصل والليمون المخلل. وكان الكشري يُقدّم في البداية على عربات الطعام، ثم أصبح متوفرًا في المطاعم.
لكن هناك من يؤكد أن الكشري طبق مصري يسبق بكثير عصر الاستعمار البريطاني لمصر، إذ تؤكد السجلات القديمة ومؤرخو الطعام المصريون، أن هناك أنواعًا مختلفة من الكشري كانت موجودة في الثقافة المصرية منذ زمن طويل.
ويُعدّ مزيج الحبوب والبقوليات والتوابل سمةً مميزةً للمطبخ المصري، إذ صُمّم لتغذية الجسم ومنحه الطاقة. وتطور مع مرور الوقت ليصبح بشكله الحالي، من خلال إضافة مكونات جديدة، مثل المكرونة وصلصة الطماطم المتبّلة التي أضافت إليه نكهة مميزة.
وجبة شعبية
وكان الكشري في الأصل وجبة متواضعة ومغذية يتناولها العمال والعائلات، بالنظر إلى تكلفته البسيطة، غير أنه سرعان ما تجاوز الطبقات الاجتماعية وأصبح الطبق المفضل للجميع في أنحاء مصر.
ويُظهر الانتشار الواسع للكشري في مصر قدرته على تجاوز الفوارق الاقتصادية، سواءً قُدِّم من عربة طعام في الشارع أو في مطعم فاخر، يبقى رمزًا للصمود والابتكار في المجتمع المصري.
ويُعدّ الكشري بمثابة سفير ثقافي، إذ يُتيح للسياح فرصة تذوّق نكهات المطبخ المصري. فبفضل تاريخه العريق ونكهاته الفريدة، يروي الكشري قصة أمة تُقدّر التكاتف والإبداع والشمولية. وتُعدّ شعبيته الدائمة دليلاً على أهميته الثقافية العميقة.
واكتسب الكشري شعبية واسعة خارج حدود مصر، وبخاصة في السعودية والإمارات، يُحتفى به بنكهات محلية مميزة. أما في الدول الغربية، فقد أصبح طبقًا رائجًا في المطاعم والمنازل على حد سواء، مع إضافات غير تقليدية أحياناً، مثل اللحم أو الخضار.
مطعم أبو طارق
ويُعدّ مطعم "أبو طارق" من أشهر وأقدم مطاعم الكشري في مصر، ويقع على زاوية شارعي معروف وشامبليون في قلب منطقة ورش تصليح السيارات بوسط القاهرة.
وبدأ يوسف زكي، المعروف باسم أبو طارق، بيع الكشري في سن الثالثة عشرة بعد وفاة والده لإعالة أسرته. كان يعمل على عربة صغيرة على ناصية الشارع حيث يقع مطعمه الآن.
في عام 1989، قرر صاحب مقهى في صعيد مصر بيع مقهاه، فذهب إليه أبو طارق واقترح عليه دفع دفعة أولى صغيرة ثم سداد قيمتها على أقساط شهرية. وبعد موافقة صاحب المقهى، ظل يسد قيمتها قرابة ثلاث سنوات، لكن حتى خلال تلك الفترة، اكتسب شهرة واسعة في ظل طبق الكشري الذي يقدمه بنكهته المميزة.
وأصبح المطعم الآن قبلة لعشرات الوزراء والدبلوماسيين والمسؤولين الأمميين في القاهرة الذين يزورونه لتجربة هذه الوجبة الشعبية، حتى أصبح ما يشبه ناديًا دبلوماسيًا غير رسمي في القاهرة يجمع وزراء ودبلوماسيّي الشرق والغرب، بعد أن جذبتهم مكونات الطبق من الأرز والمكرونة والعدس والحمص والبصل، ومعها "الدقة والشطة".
وقال طارق يوسف، نجل صاحب المطعم، إن مطعمه الذي صنّفه الموقع العالمي "TasteAtlas" من بين أكثر 100 مطعم متميّز حول العالم في عام 2023 أطلق مبادرة منذ 5 سنوات، لتنشيط سياحة الطعام وتبادل الثقافات عبر استضافة كثير من السفراء، الذين رحّبوا بالمشاركة، وتناول الكشري وسط الأجواء الشعبية المصرية.
دبلوماسية الكشري
وزار العديد من وزراء الخارجية المطعم لتناول الكشري، من بين هؤلاء ماينل رايزينجر، وزيرة خارجية النمسا، التي ظهرت في مقطع فيديو وهي تُعد طبق كشري أثناء تناولها الطعام، كما ظهرت في لقطات أخرى وهي تستعد للتحلية بتناول طبق من الأرز بلبن.
أيضًا كان وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي أحد الدبلوماسيين الذين تناولوا الكشري المصري معربًا عن إعجابه به، قائلاً إنه "وجبة لذيذة وشهية". وهو ما جاء بعد سنوات من جمود العلاقات بين القاهرة وطهران، ما اعتبره البعض يؤرخ لمرحلة جديدة في العلاقات بين الجانبين.
ورافق الوزير المتحدث الرسمي باسم الخارجية الإيرانية السفير إسماعيل بقائي، ورئيس مكتب رعاية المصالح الإيرانية في القاهرة، السفير محمد سلطاني فرد.
كما ظهر مسعد بولس، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي للشؤون الإفريقية، أثناء تناوله الكشري في مطعم "أبوطارق"، ونشرت صفحة السفارة الأمريكية مقطع الفيديو، والذي علقت عليه قائلة: "خلال زيارته في القاهرة، مسعد بولس كبير مستشاري الرئيس الأمريكي ماقدرش يفوّت أشهر محل كشري في مصر"، ولم يكتف بتناول الكشري، بل جرّب تعبئة الطبق بمكوناته المختلفة.
وكان سفير نيوزيلندا السابق، جريج لويس، أول من شارك في مبادرة المطعم، ومن ثمّ توالى حضور سفراء بريطانيا، وأستراليا، وتشيلي، والأرجنتين، والمكسيك، وجورجيا، ومالي، وكولومبيا، وبلجيكا، وهولندا، وأفغانستان، ونيبال، والدنمارك، وبيرو، وكوريا الجنوبية، والبوسنة والهرسك، وغيرهم العشرات.

