تقرير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعنوان "تأديب المجتمع" يكشف بوضوح أن ما تسميه سلطات الانقلاب "حماية قيم الأسرة المصرية" ليس إلا غطاءً قانونيًا وأمنيًا لحملة قمع ممنهجة تستهدف الفقراء والنساء وصانعي المحتوى ذوي الحضور الشعبي منذ أبريل 2020.
هذا النهج لا يحمي الأسرة ولا يحفظ الأخلاق، بل يستخدم القانون كسوط لتأديب المجتمع وضبطه من أسفل، مع تكريس تمييز طبقي وجندري صارخ، في تناقض مباشر مع الدستور والالتزامات الدولية لمصر في مجال حقوق الإنسان.
من استهداف صانعات “تيك توك” إلى سياسة دولة
يشير التقرير إلى أن الحملة بدأت باستهداف صانعات المحتوى على “تيك توك”، لكن سرعان ما تحولت من حالات فردية إلى نمط مؤسسي تتورط فيه أجهزة الأمن والنيابة والقضاء، عبر استخدام ترسانة من المواد الفضفاضة في قوانين الإنترنت والعقوبات.
هذا التحول يعني أن السلطة قررت رسميًا معاملة الفضاء الرقمي كساحة تأديب لا تعبير، وأنها تنظر إلى أي حضور مستقل ومؤثر للفئات المهمشة على المنصات الرقمية كتهديد يجب ردعه لا كحق يجب حمايته.
252 قضية و327 ضحية: عدالة تستقوي على الأضعف
يوثق تقرير المبادرة ما لا يقل عن 327 شخصًا تمت ملاحقتهم في 252 قضية خلال خمس سنوات، تحت تهمة "التعدي على قيم الأسرة"، وهو رقم يكشف أن الأمر ليس انحرافًا فرديًا بل سياسة عامة متواصلة.
ورغم تقارب أعداد المتهمين بين النساء والرجال، فإن الأثر الفعلي على النساء أشد قسوة، لأن الحملة توظف أجساد النساء وسلوكهن وملابسهن كحقل أساسي لـ"التأديب" الرمزي والفعلي أمام المجتمع. صيف 2025 وحده شهد القبض على 167 شخصًا في 134 قضية خلال أقل من أربعة أشهر، 107 منهم نساء، في ذروة هستيريا أخلاقية صُنعت إعلاميًا وقضائيًا لتبرير التصعيد.
انحياز طبقي فج: الفقراء يُجرَّمون والأثرياء يُتركون
التقرير يفضح بوضوح الطابع الطبقي لهذه الحملة، حيث تستهدف بشكل رئيسي أبناء الطبقات الفقيرة والوسطى الدنيا، من صانعي محتوى يسعون لكسب قوت يومهم عبر المنصات الرقمية.
بينما يُترك صناع المحتوى من الطبقات الأعلى، الذين يقدمون محتوى مشابهًا أو أكثر "جرأة" بلغات أجنبية أو في سياقات سياحية وترفيهية، دون مساءلة تُذكر. بهذا يتحول القانون إلى سلاح يستخدم ضد من "لا ظهر لهم" اجتماعيًا أو اقتصاديًا، في حين تتحول الثروة والمكانة الطبقية إلى حصانة فعلية من الملاحقة، حتى لو كان المحتوى المقدم متطابقًا من حيث الشكل والمضمون.
تأديب جندري: جسد المرأة و”رجولة” الرجل تحت المقصلة
التقرير يرصد بُعدًا جندريًا واضحًا في الحملة، إذ تُستخدم "قيم الأسرة" لفرض صورة ضيقة ومثالية لسلوك المرأة في المجال العام، تجرّم كل خروج عن نموذج "الرقة" و"الملبس المحافظ" و"الحياء" كما تتخيله السلطة وأجهزتها.
في المقابل، يُلاحق الرجال لأسباب تتعلق بالمظهر المختلف أو السلوك غير المطابق للنمط الذكوري التقليدي، بما في ذلك التعبير عن ميول جنسية أو هويات جندرية لا تعترف بها المنظومة الرسمية. هذه ليست حماية للأسرة بل اعتداء على التنوع الإنساني، وتحويل للأجهزة الأمنية والقضائية إلى شرطة أخلاق تلاحق الأجساد والهويات بدلًا من حماية الحقوق والحريات.
قانون الإنترنت كسلاح فضفاض: المادة 25 نموذجًا
أخطر ما يكشفه التقرير هو الاستخدام الممنهج للمادة 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات (175 لسنة 2018)، بصياغتها الفضفاضة عن "الاعتداء على قيم الأسرة" كمدخل لتجريم أي تعبير رقمي لا يعجب السلطة. بدلًا من تعريف قانوني منضبط، يُترك مفهوم "قيم الأسرة" لمزاج القضاة واستحضارهم لكتب ومؤلفات شخصية وأحكام أخلاقية، ما يحول القانون إلى أداة انتقام لا معيار عدالة.
الأخطر أن هذه الملاحقات تُضخم إعلاميًا باتهامات مثل "غسل الأموال" و"الاتجار بالبشر" دون أدلة حقيقية، فقط لشيطنة المتهمين أمام الرأي العام وتحويلهم من أصحاب محتوى إلى "مجرمين خطرين" في الوعي الجمعي.
إعلام رسمي وبيانات سلطوية لتصنيع الذعر الأخلاقي
التقرير يلفت إلى أن النيابة العامة ووزارة الداخلية تلعبان دورًا مركزيًا في صناعة "الذعر الأخلاقي"، من خلال نشر صور المتهمين وأسمائهم وتفاصيل من حياتهم الشخصية قبل صدور أي أحكام نهائية.
هذه الممارسة لا تنتهك فقط قرينة البراءة وحق الخصوصية، بل تحول الدولة إلى منبر للتشهير العلني، وتستخدم لغة وعظية أخلاقية بديلة عن اللغة القانونية المحايدة. وحين يخرج رئيس الوزراء ليربط بين تطبيقات التواصل الاجتماعي و"تهديد الأمن القومي الاجتماعي"، فإن هذه اللغة تتحول إلى غطاء سياسي صريح لحملة قمع ممنهجة ضد حرية التعبير الرقمي، تُقدَّم للمجتمع على أنها "حماية" لا استبداد.
تجاهل صارخ للتوصيات الدولية والدستور
في ختام التقرير، تُذكِّر المبادرة بأن مصر تلقت بالفعل توصيات متعددة من لجان الأمم المتحدة بوقف استخدام المواد القانونية الفضفاضة لتجريم النساء والفتيات ومستخدمي الإنترنت، وإعادة مواءمة التشريعات مع التزاماتها في الاتفاقيات الدولية.
استمرار الحملة رغم هذه التوصيات، ورغم النصوص الدستورية التي تكفل حرية التعبير والخصوصية وعدم التمييز، يعني أن السلطة تتعامل مع الدستور والمواثيق الدولية كورقة تجميل أمام الخارج، بينما تُدير في الداخل نظامًا تأديبيًا هدفه ضبط المجتمع وإسكات الفئات الأضعف.
أمام هذا الواقع، يصبح تقرير "تأديب المجتمع" وثيقة إدانة سياسية وقانونية لنظام الانقلاب، أكثر منه مجرد رصد حقوقي، ونداءً لاعتبار ملف الحريات الرقمية والتمييز الطبقي والجندري قضية مركزية في أي معركة جادة من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في مصر.

