في ضربة قوية لشرعية "مسرحية" الانتخابات البرلمانية التي هندستها الأجهزة الأمنية بدقة، جاء قرار اللواء كمال الدالي، محافظ الجيزة الأسبق وأحد أبرز رجالات النظام، بالانسحاب من جولة الإعادة واستقالته من حزب "الجبهة الوطنية"؛ ليُسقط ورقة التوت الأخيرة عن العملية الانتخابية برمتها.
هذا الانسحاب ليس مجرد قرار فردي، بل هو إعلان صريح عن تصدع الجبهة الداخلية للنظام، واعتراف ضمني بأن حجم التلاعب والتزوير قد تجاوز حتى قدرة "أهل البيت" على احتماله أو تبريره أمام قواعدهم الشعبية.
انسحاب "ابن الدولة".. القفز من السفينة قبل الغرق
لم يكن كمال الدالي مجرد مرشح عابر، بل هو "رجل دولة" بامتياز، تقلد مناصب حساسة من إدارة الأمن العام إلى كرسي المحافظ، وكان يُنظر إليه كأحد الأعمدة التي يستند إليها النظام في محافظة الجيزة. لذا، فإن خروجه ببيان يتحدث فيه عن "تقديم العقل على الطموح" و"القيم قبل المنافسة"، يحمل في طياته إدانة دامغة للمناخ الذي جرت فيه الانتخابات.
فعبارة "القيم قبل المنافسة" التي استخدمها الدالي تُقرأ سياسيًا على أنها تبرئة للذات من "مستنقع" التزوير وشراء الأصوات الذي أغرقت فيه السلطة وحزبها المدلل "مستقبل وطن" الدوائر الانتخابية. إنها رسالة مشفرة تفيد بأن البقاء في هذا السباق يعني التورط في جريمة تزوير إرادة الناخبين، وهو ما رفضه الدالي مفضلاً الحفاظ على ما تبقى من رصيده الشخصي بدلًا من الفوز بمقعد في برلمان "فاقد الأهلية".
اعتراف السيسي بـ"الفضيحة".. وإلغاء الدوائر "ذر للرماد في العيون"
الأكثر إثارة للسخرية في هذا المشهد العبثي هو تدخل رأس النظام، عبد الفتاح السيسي، لمطالبة الهيئة الوطنية للانتخابات بالتدقيق في التجاوزات، وهو تصريح يكشف عن حجم الكارثة. فالسيسي، الذي طالما تغنى بنزاهة مؤسساته، وجد نفسه مضطرًا للاعتراف بوجود "ممارسات مخالفة" استدعت إلغاء النتائج في 19 دائرة دفعة واحدة.
لكن المراقبين يرون في هذا الإلغاء مناورة مكشوفة لامتصاص الغضب الشعبي وتجميل وجه النظام القبيح أمام المجتمع الدولي، وليس رغبة حقيقية في الإصلاح. فبينما تُلغى نتائج دوائر هامشية، يتم تمرير نتائج دوائر أخرى شهدت نفس الانتهاكات لصالح مرشحي السلطة، في عملية "تطليق انتقائي" للفساد الانتخابي، تهدف فقط لتهدئة الرأي العام دون المساس بالهيكل الرئيسي للبرلمان المُعد سلفًا داخل الغرف المغلقة.
"مستقبل وطن".. الحزب الواحد بوجوه متعددة
على الجانب الآخر، يواصل حزب "مستقبل وطن" -الذراع السياسي للأجهزة الأمنية- اكتساح المقاعد بأساليب تعيد للأذهان أسوأ ممارسات الحزب الوطني المنحل. فحصول الحزب على 85 مقعدًا في الجولة الأولى، وحسمه للقوائم المغلقة "بالتزكية" أو بمنافسة صورية، يؤكد أن الهدف ليس إجراء انتخابات، بل "تعيين" نواب بمواصفات أمنية محددة، مهمتهم الوحيدة التصفيق للقرارات الحكومية وتمرير قوانين الجباية والقمع.
إن ما يحدث ليس عملية ديمقراطية، بل هو "إعادة تدوير" لنظام الحزب الواحد، حيث يتم إقصاء كل صوت معارض أو حتى مستقل، ليحل محله "موظفون" برتبة نواب. وما انسحاب الدالي إلا دليل قاطع على أن المجال العام قد أُغلق تمامًا، حتى في وجه أولئك الذين كانوا يومًا جزءًا من منظومة الحكم، لكنهم رفضوا أن يكونوا مجرد "كومبارس" في مسرحية هزلية يدفع ثمن تذاكرها الشعب المصري من حريته وقوت يومه.
في المحصلة، تؤكد هذه الانتخابات، بفضائحها وانسحاباتها، أن النظام الحالي لا يملك شرعية شعبية حقيقية، وأنه يستمد بقاءه فقط من القبضة الأمنية وهندسة المؤسسات الصورية، في حين يتسع الشرخ يومًا بعد يوم بين "جمهورية الضباط" وبين شارع يغلي تحت السطح، ينتظر لحظة الانفجار.

