في وقت تعاني فيه أغلبية المصريين من الغلاء والضرائب وانهيار الخدمات الأساسية، كشفت بيانات رسمية عن ارتفاع دعم الغاز الموجه للمصانع إلى 525 مليون دولار خلال الربع الثالث فقط من العام الجاري، بزيادة تصل إلى 75 مليون دولار مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي.

 

ورغم ارتفاع هذه الكلفة على الدولة، لا تزال حكومة الانقلاب تواصل دعم المصانع الكبرى وكأنها أولوية وطنية، بينما تدفع الفئات الفقيرة ومتوسطة الدخل ثمن هذا الدعم بشكل غير مباشر في فواتير الكهرباء والغاز والسلع اليومية.

 

أرقام فلكية لدعم الغاز في زمن التقشف الشعبي

 

قال مصدر مطلع في الشركة المصرية للغازات الطبيعية "إيجاس"، إن دعم الغاز الموجه للمصانع بلغ 525 مليون دولار في الربع الثالث من 2025، مقابل 450 مليون دولار في نفس الفترة من العام الماضي، ما يعني زيادة بنسبة 16%.

 

وهي ليست الزيادة الوحيدة هذا العام، فالدعم ارتفع أيضًا مقارنة بالربع الثاني من 2025، حين بلغ 495 مليون دولار، ما يكشف عن منحنى تصاعدي خطير في تمويل الغاز للمصانع في ظل أزمة اقتصادية خانقة.

 

كل هذه الأموال تُضخ في مصانع تستهلك الغاز بكثافة، بعضها يحقق أرباحًا بمليارات الجنيهات، ولا ينعكس هذا الدعم بأي شكل إيجابي على المواطن، لا في أسعار السلع، ولا في توفير فرص عمل حقيقية، بل إن كثيرًا من هذه المصانع توجه إنتاجها للتصدير وجني الأرباح الدولارية.

 

تحرير الدعم.. على حساب المواطن فقط

 

رغم هذا الإنفاق الضخم، لا تخجل حكومة الانقلاب من الحديث عن "تحرير دعم الغاز"، ولكن التحرير لا يشمل وقف دعم المصانع، بل يُطبق عادة على المنازل ووسائل النقل والمخابز التي تستهلكه ملايين الأسر الفقيرة والمتوسطة.

 

وفي سبتمبر الماضي، رفعت الحكومة فعليًا أسعار الغاز على الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، بزيادة تصل إلى دولار واحد لكل مليون وحدة حرارية، لكن هذه الزيادة لا تُقارن بالتكلفة الحقيقية التي تتحملها الدولة نتيجة استيراد الغاز من الخارج.

 

تدفع الدولة الآن ما بين 12 إلى 14 دولارًا لكل مليون وحدة حرارية من الغاز المسال، بينما تبيعه للمصانع بأسعار تتراوح بين 4.5 إلى 5.7 دولارات، في مفارقة تعكس مدى انحياز النظام الاقتصادي إلى رأس المال الكبير على حساب الموارد العامة.

 

استيراد من إسرائيل.. وديون على الشعب

 

تعتمد مصر حاليًا على واردات خارجية بنسبة 40% من استهلاكها للغاز، منها الغاز الإسرائيلي، الذي تصل تكلفة استيراده إلى 7.7 دولارات لكل مليون وحدة حرارية.

 

يقول المصدر في "إيجاس" إن الدولة تتكبد فاتورة استيراد ضخمة لتأمين الغاز للمصانع، فيما يدفع الشعب تكلفة هذا الدعم في شكل مزيد من الاقتراض، وارتفاع التضخم، وتقليص الإنفاق على الصحة والتعليم.

 

في وقت تتسول فيه الحكومة من صندوق النقد الدولي قروضًا جديدة، وتُرهق المواطن بالضرائب والرسوم، تنفق بلا حساب لدعم مصانع رجال الأعمال الذين يدورون في فلك السلطة، ويستفيدون من صفقات الطاقة والامتيازات دون مساءلة أو شفافية.

 

من يُموّل من؟ المصانع تبيع بالدولار وتشتري الغاز بالخصم

 

تطالب الحكومة اليوم بتحرير سعر الغاز ورفعه تدريجيًا، إلا أن مصادر رسمية أكدت أن السعر المتوقع للمصانع التي تُصدّر منتجاتها للخارج قد يصل إلى 12 دولارًا لكل مليون وحدة حرارية، أي ما يساوي السعر الفعلي للاستيراد.

 

لكن المفارقة أن المصانع التي تبيع منتجاتها في السوق المحلية ستستمر في الحصول على الغاز بسعر مدعوم يتراوح بين 7 إلى 8 دولارات، ما يعني دعمًا ضمنيًا لزيادة أسعار السلع المحلية دون أي فائدة تعود على المواطن.

 

إنتاج محلي متعثر.. والاستثمارات موجهة للأغنياء

 

تنتج مصر حاليًا 3.4 مليار قدم مكعب من الغاز يوميًا، بينما تستهدف الحكومة رفعه إلى 6.6 مليار قدم، عبر تحفيز الشركات الأجنبية للاستثمار، خاصة في المياه العميقة، وهي الأعلى تكلفة لكنها توفر احتياطات ضخمة.

 

غير أن هذه الاستثمارات لا تعني زيادة الغاز للمنازل أو للقطاعات الاجتماعية، بل تتجه بالكامل لتوفير الغاز للمصانع والتصدير، ما يعزز نهج الخصخصة المقننة للثروات الطبيعية التي يفترض أن تكون ملكًا عامًا للشعب.

 

دعم المصانع خط أحمر.. بينما الجوع مقبول

 

تكشف أرقام دعم الغاز للمصانع في مصر عن سياسة اقتصادية جائرة، تتعامل مع المواطن باعتباره عبئًا على الموازنة، بينما تعامل رجال الأعمال كطبقة فوق النقد والمحاسبة.

 

حكومة الانقلاب ترفع شعار "الإصلاح الاقتصادي"، لكنها في الحقيقة تُدير الموارد لمصلحة الأقوياء، وتُلقي بالفاتورة الكاملة على المواطن الفقير، الذي لم يعد يملك حتى الحق في الاعتراض أو السؤال: لمن يُمنح هذا الغاز؟ ومن يدفع الثمن؟