يوضح الدكتور عمر عبيد حسنة أن تبني هموم الناس واجب شرعي يقع ضمن فروض الكفايات التي أوجبها الله على الأمة، بحيث يتحمل القادرون مسؤولية القيام بها، ويجب على غير القادرين حث القادرين على أدائها. ويستدل بقول الله تعالى في الحاقة عن من لا يحض على طعام المسكين، مبينا أن الإثم يشمل الممتنع والداعي إلى التراخي سواء. ويعرض أقوال الشافعي والشاطبي في هذا المعنى، ويستشهد بلعن بني إسرائيل لأنهم لم يتناهوا عن المنكر، وبحديث النبي عن عواقب ترك الأخذ على يد الظالم. كما يرد على من أساء فهم قوله تعالى: «عليكم أنفسكم»، مؤكدا بتفسير ابن تيمية وابن المبارك والقرطبي أنها دعوة للتكافل لا للانزواء. ويختتم بأن تخلي المسلمين عن تبني تلك الأبعاد أدى إلى تردي واقع الأمة وضعف آليات حفظ كيانها ووحدتها.

 

وجوب إعانة القادرين لغير القادرين باعتبارها من فروض الكفايات

 

أوجب كتاب الله في آيات كثيرة منه، على القادرين في كل المجالات، إعانة غير القادرين فيها، وهو الصنف من الفروض الذي اصطلح علماء الأصول على تسميته بـ : "فروض الكفايات "، وعرفوها بأنها: موجهة إلى الجميع، لكن إذا قام بها بعضهم سقطت عن الباقين .

 

وفي تسمية الأصوليين - خصوصا الأوائل .


دلالة الفروض الكفائية على مسؤولية الأمة الجماعية في القيام بالواجبات

 

لها، بالفروض الكفائية، إيحاء، بأن القيام بها، من لدن القادرين، ينبغي أن يكون كافيا للأمة، وإلا فإنها لا تسقط، ويبقى الإثم عالقا بعموم الأمة، قال الشافعي في الرسالة: "وهكذا كل ما كان الفرض فيه، مقصودا به قصد الكفاية، فيما ينوب، فإذا قام به من المسلمين، من فيه الكفاية، خرج من تخلف عنه، من المأثم، ولو ضيعوه معا، خفت، أن لا يخرج واحد منهم، مطيق فيه، عن المأثم، بل لا أشك - إن شاء الله - لقوله: (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) [التوبة:39]، قال: فما معناه؟ قلت: الدلالة فيها، أن تخلفهم عن النفير كافة، لا يسعهم، ونفير بعضهم، إذا كانت في نفيره كفاية، يخرج من تخلف من المأثم، إن شاء الله .

 

مسؤولية غير القادرين في الحض على إقامة الفروض الكفائية ودعم القادرين

 

إلا أن غير القادرين، لا يبقون - بخصوص الفروض الكفائية - بدون مسئولية، فالشرع يرتب عليهم مسئولية السعي، لإقامة القادرين.

 

قال تعالى: (خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين) [الحاقة:30-34].

 

قال ابن الجوزي في تفسير قوله تعالى: (ولا يحض على طعام المسكين): "لا يطعمه، ولا يأمر بإطعامه" .

 

فالعقاب لم يكن فقط لأولئك الذين يمنعون الماعون، وهم قادرون عليه، ولكن عم أيضا أولئك الذين لم ينهضوا القادرين، ويحثوهم على بذله. وعليه، وجب فهم قول الشافعي: لا يخرج واحد منهم، مطيق فيه، من المأثم ، في ضوء كون الإطاقة، إطاقة الحض، والحث أيضا، لا إطاقة الفعل، والإنجاز فقط.

 

قال الشاطبي: القيام بهذا الفرض - يقصد الفرض الكفائي - قيام بمصلحة عامة، فهم مطلوبون بسدها على الجملة، فبعضهم هو قادر عليها مباشرة، وذلك من كان أهلا لها، والباقون، وإن لم يقدروا عليها، قادرون على إقامة القادرين، فمن كان قادرا على الولاية، فهو مطلوب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها، مطلوب بأمر آخر، وهو إقامة ذلك القادر، وإجباره على القيام بها. فالقادر إذن، مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر، مطلوب بتقديم ذلك القادر، إذ لا يتوصل إلى قيام القادر، إلا بالإقامة، من باب ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب .

 

لعنة بني إسرائيل بسبب تركهم التناهي عن المنكر وتحذير الأمة من الوقوع في مثل حالهم

 

وإن اللعنة، ما لحقت ببني إسرائيل، على لسان أنبيائهم، إلا لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.

 

قال عز وجل: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) [المائدة:78-79].

 

وقد تقدم كيف جعل الله سبحانه عدم الحض على طعام المسكين تكذيبا بالدين. وأي منكر إذن، أكبر من التكذيب بالدين؟

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم، وآكلوهم، وشاربوهم، فضرب الله على قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم، على لسان داود، وعيسى ابن مريم"، ثم جلس وكان متكئا، فقال: "لا والذي نفسي بيده، حتى تأطروهم على الحق أطرا) .

 

تصويب الفهم الخاطئ لقوله تعالى (عليكم أنفسكم) وبيان معناها الصحيح في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 

ولكم تشبث المتشبثون بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) [المائدة:105]، معتقدين أن هـاهنا رخصة للقعود عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

 

إذ ظاهر الآية يوحي بذلك، قال القرطبي: وظاهر هـذه الآية يدل على أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ليس القيام به بواجب، إذا استقام الإنسان، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، لولا ما ورد من تفسيرها في السنة، وأقاويل الصحابة والتابعين .

 

وقد تنبه الصديق أبو بكر رضي الله عنه إلى هـذا الإشكال، ففي سنن الترمذي، عن قيس قال: خطبنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: إنكم تقرءون هـذه الآية، وتتأولونها على غير تأويلها: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) [المائدة:105]، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده) قال أبو عيسى: هـذا حديث حسن صحيح .

 

وقد أعجبني تعليق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هـذه الآية، حين قال: إن المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده، وليس عليه هـداهم، وهذا معنى قوله تعالى: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)، والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما قام بغيره من الواجبات، لم يضره ضلال الضالين .

 

هذا وإن للإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله، قولا جليلا في تفسير هـذه الآية، حيث قال: (عليكم أنفسكم) خطاب لجميع المؤمنين، أي: عليكم أهل دينكم، كقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) [النساء:29] .
قال القرطبي شارحا قول ابن المبارك: فكأنه قال: ليأمر بعضكم بعضا، ولينه بعضكم بعضا، فهو دليل على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا يضركم ضلال المشركين والمنافقين، وأهل الكتاب، وهذا لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجري المسلمين من أهل العصيان.

 

وروى هـذا المعنى عن سعيد بن جبير .

 

وقال مجاهد في سبب نزول هـذه الآية: "نزلت في أهل الكتاب" .

 

وقال القرطبي: "والمعنى: لا يضركم كفر أهل الكتاب إذا أدوا الجزية" .

 

ضرورة إحياء الفروض الكفائية لتجديد دور الأمة في حفظ كيانها ووحدتها

 

نستخلص من جميع ما مر، أن تعامل المسلمين في العصور المتأخرة، مع واقعهم، كان عاريا من التمثل للأبعاد الحقيقية، والمقاصد السنية بهذا الخصوص، والتي يشتمل عليها كتاب الله تعالى، وتحث عليها سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا غرو أن أصبح واقعنا على ما أصبح عليه، من ترد وتشتت، وضحالة.

 

لأن هـناك آليات برمتها، من آليات حفظ كيان الأمة، قد سقطت، وانعدم انفعال المسلمين لها وبها، وما شيء يحفظ، إلا بما هـيأه صانعه، لأن يحفظ به، وأمتنا، لا يمكن أن تحفظ، إلا بهذه الطرائق، والآليات، والتوجيهات، التي أراد الباري لها أن تؤدي وظيفة الحفظ، وهو العليم الحكيم.