تتواصل المآسي الإنسانية في القرى المصرية الفقيرة، حيث يدفع الفقر واليأس آلاف الشباب إلى ركوب البحر في مغامرات الهجرة غير الشرعية، هربًا من البطالة وضيق العيش.
وفي مشهد جديد من مشاهد “رحلات الموت”، لقي سبعة مواطنين من قرية تلبانة بمحافظة الدقهلية مصرعهم غرقًا أثناء محاولتهم الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط قبالة السواحل الليبية، بينما تمكنت السلطات الليبية من انتشال أربع جثث حتى الآن، وتواصل فرق الإنقاذ البحث عن ثلاثة مفقودين وسط صمتٍ رسمي مصري يفاقم الغضب الشعبي.
الحادث، الذي أعاد إلى الأذهان عشرات المآسي السابقة، يكشف الوجه القاتم للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر تحت حكم عبد الفتاح السيسي، حيث تتسع الفجوة بين وعود التنمية وواقع القرى المهمّشة التي لا تجد من الدولة سوى الإهمال.
تفاصيل الحادث: رحلة الموت من تلبانة إلى الزاوية الليبية
بدأت رحلة الشباب المصريين قبل عدة أيام من داخل الأراضي الليبية، متوجهين نحو السواحل الأوروبية ضمن شبكة تهريب تتولى عمليات الهجرة غير القانونية على الساحل الغربي لليبيا.
وأثناء الإبحار، تقطّعت السبل بالزورق الذي كانوا على متنه، بعد تعرضه لعطل مفاجئ أدى إلى انقلابه قبالة مدينة الزاوية الليبية، ما تسبب في غرق جميع الركاب.
وحتى لحظة إعداد التقرير، تمكنت السلطات الليبية من انتشال جثامين أربعة من الضحايا، وهم:
- فتحي مجدي الصاوي
- أحمد طارق محمد القناوي
- السعودي عبد المنعم أبو الإسعاد يونس
- محمود محمد أبو الإسعاد يونس
نُقلت الجثامين الأربعة إلى مستشفى مدينة الزاوية، فيما لا تزال فرق الإنقاذ تواصل عمليات البحث عن ثلاثة مفقودين، بينما تعيش أسرهم حالة من الترقب والخوف من مصيرٍ مجهول.
مأساة القرية ورد فعل الأهالي: حزن وغضب وصمت رسمي
خيم الحزن والغضب على قرية تلبانة بمحافظة الدقهلية، حيث تجمّع الأهالي في منازل الضحايا لتقديم العزاء، وسط حالة من الصدمة والذهول.
الأهالي عبّروا عن ألمهم العميق من استمرار نزيف الهجرة غير الشرعية الذي يحصد أرواح الشباب عامًا بعد آخر، متسائلين عن دور الحكومة التي اكتفت بالتصريحات دون حلول واقعية.
الكثير من سكان القرية يرون أن ما حدث ليس حادثًا عابرًا بل نتيجة طبيعية لسياسات الفقر والتهميش التي جعلت من الموت في البحر خيارًا أفضل من الحياة في وطنٍ باتت فيه فرص العمل ترفًا.
وتعكس المأساة فشل الدولة في خلق بيئة اقتصادية آمنة، حيث تحوّلت قرى الدلتا إلى مصدر دائم للهجرة غير الشرعية بسبب تدهور الزراعة والصناعة وارتفاع الأسعار وتراجع الدعم الحكومي.
تحركات رسمية محدودة وطلبات شعبية للتحقيق
أعلنت السلطات المصرية بدء الاتصالات مع الجانب الليبي لضمان إعادة الجثامين ودفنها في قريتهم، بينما تتابع الأجهزة المعنية عمليات البحث عن المفقودين.
لكن الأهالي لا يثقون كثيرًا في وعود الحكومة، إذ طالبوا بتحقيق عاجل وشامل لكشف المتورطين في شبكات التهريب التي تدير رحلات الموت عبر البحر، محمّلين الأجهزة الأمنية مسؤولية فشلها في ملاحقة عصابات الهجرة التي تنشط علنًا في عدد من المحافظات.
ويرى مراقبون أن بطء التحرك الرسمي يعكس استهانة النظام المصري بحياة الفقراء، حيث لا تتحرك مؤسسات الدولة إلا بعد الكوارث، وغالبًا ما تُدفن القضايا دون محاسبة حقيقية.
خلفية الحوادث المتكررة: تكرار المأساة في عهد السيسي
حادثة تلبانة ليست الأولى، بل حلقة جديدة في سلسلة من الكوارث التي شهدتها المحافظات المصرية خلال السنوات الأخيرة.
فقد فقدت قرية تلبانة وبعض القرى المجاورة عشرات من شبابها في حوادث مماثلة أثناء محاولاتهم الوصول إلى أوروبا عبر ليبيا، بينما فشلت الحكومة في وضع استراتيجية حقيقية لمعالجة الأسباب الجذرية لهذه الظاهرة.
ويرى خبراء أن تصاعد الهجرة غير الشرعية يعكس تفاقم أزمة الفقر والبطالة وتآكل الطبقة الوسطى في ظل السياسات الاقتصادية الحالية، التي تعتمد على القروض والمشروعات غير المنتجة دون خلق فرص عمل حقيقية.
كما أن الفساد الإداري والاحتكار الاقتصادي أدّيا إلى حرمان الشباب من أبسط حقوقهم في الحياة الكريمة، فبات البحر منفذهم الأخير نحو الأمل، حتى لو كان محفوفًا بالموت.
وتشير منظمات الهجرة الدولية إلى أن مصر باتت من أكثر الدول المصدّرة للمهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا في السنوات الأخيرة، خاصة من مناطق الدلتا والصعيد، وهو مؤشر خطير على عمق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية.
الفقر والفساد… المحرك الخفي وراء رحلات الموت
تؤكد هذه الحادثة أن الفقر لم يعد مجرد رقم في التقارير الحكومية، بل صار مأساة متجسدة في مراكب الهجرة التي تبتلع الشباب واحدًا تلو الآخر.
ففي ظل حكم عبد الفتاح السيسي، تتفاقم الأوضاع الاقتصادية مع ارتفاع الديون وتراجع الخدمات وغياب العدالة في توزيع الموارد، بينما تُهدر مليارات الجنيهات على مشروعات ترفيهية لا تمس حياة المواطنين اليومية.
تلبانة اليوم ليست مجرد قرية فقدت أبناءها، بل رمزٌ لمصر المهمشة التي تُترك لتواجه مصيرها، بين الفقر والبطالة والإحباط، دون حماية أو أمل في المستقبل.
وفي الوقت الذي يحتفي فيه الإعلام الرسمي بـ"المتحف الكبير" و"العاصمة الجديدة"، يغرق أبناء القرى في بحارٍ من الإهمال واليأس، يدفعهم النظام نحو الموت صمتًا، دون حتى أن يلتفت إليهم.
دولة تتجاهل فقرها وتشيّع أبناءها إلى البحر
حادثة غرق أبناء تلبانة لم تكن سوى مرآة لحال مصر اليوم؛ دولةٌ تُدار بلا رؤية اجتماعية، تُهمل القرى وتحتكر الثروة وتحتفي بالمظاهر بينما أبناؤها يُدفنون في مقابر البحر المتوسط.
في كل مرة يموت فيها شاب في رحلة هجرة، يعلن المسؤولون عن “تحقيق عاجل” لا نسمع نتائجه، وتُغلق الملفات كما تُغلق قلوبهم.
يبقى البحر الشاهد الأخير على فشل السياسات الحكومية وعمق الفساد الذي جعل الحياة في مصر أشد قسوة من الغرق نفسه.
ورغم كل المآسي، لا يزال الفقراء يردّدون بمرارة: “نموت في البحر... ولا نعيش في وطنٍ لا يسمع صراخنا.”

