تعيش مصر منذ سنوات حالة من التناقض الصارخ بين مشاهد الفقر الممتد في شوارعها، وصور الفخامة والبذخ التي تصاحب ظهور قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي في مشروعاته الكبرى.

ففي الوقت الذي تزداد فيه الحملات التلفزيونية التي تناشد المصريين التبرع لتوصيل المياه أو علاج المرضى أو إطعام الجوعى، تُعرض على القنوات نفسها مشاهد دعائية باهظة التكلفة لمشروعات عملاقة، أو افتتاحات فخمة مثل المتحف المصري الكبير، الذي وُصف بأنه أحد أضخم المتاحف في العالم من حيث التكلفة والإنشاء والإبهار البصري.

هذا التناقض أصبح مادةً للنقاش العام حول أولويات الدولة، وعدالة توزيع مواردها، وحدود البذخ في ظل تفاقم الفقر والمعاناة المعيشية للمواطنين.

 

مشاهد البذخ في المتحف الكبير: الإبهار فوق المعاناة

يُعد المتحف المصري الكبير واحدًا من أبرز مشروعات النظام التي يسعى من خلالها السيسي لتقديم صورة “مبهرة” للعالم عن مصر الحديثة.

تُقدر تكلفته بمليارات الجنيهات، ويتفاخر النظام بأنه صرحٌ ثقافي وحضاري سيجذب ملايين السياح ويضع القاهرة على خريطة السياحة العالمية.

لكن، خلف هذه الصورة البراقة، تبرز تساؤلات حادة:

هل كانت هذه أولوية في بلد يعيش فيه أكثر من ثلثي سكانه تحت خط الفقر؟

وهل يبرر “الإبهار العالمي” إنفاق كل هذه الأموال في ظل انهيار الخدمات العامة وارتفاع أسعار السلع الأساسية؟

الإعلان الرسمي للمتحف، الذي تصدرته مشاهد فخمة بتقنيات تصوير عالمية وموسيقى أوركسترالية، بلغت تكلفته ملايين الدولارات،

بحسب تقديرات خبراء تسويق وإنتاج. في المقابل، كان المواطن المصري يتابع الإعلان من غرفة ضيقة، وهو يواجه صعوبة في دفع فواتير الكهرباء أو شراء احتياجات أسرته اليومية.

هذا التناقض في الصورة والواقع عمّق الشعور بالمرارة لدى فئات واسعة من المجتمع التي ترى في “مشاهد الإبهار” استعراضًا للقوة لا يعكس واقعها القاسي.

 

إعلانات التسول الداخلي.. دولة تطلب من شعبها المساعدة

في الجهة المقابلة، تُغرق الفضائيات المصرية شاشاتها يوميًا بإعلانات تدعو المصريين للتبرع لمستشفيات حكومية، أو جمعيات أهلية، أو مبادرات رئاسية “لمساعدة غير القادرين”.

تتكرر العبارات ذاتها: “تبرع بعشرة جنيهات تنقذ حياة إنسان”، “شارك في توصيل المياه لقرية فقيرة”، “ساهم في بناء مستشفى جديد”.

هذه الإعلانات، التي تتوسل للمواطن العادي ليساعد مواطنًا آخر، تكشف بوضوح عجز الدولة عن أداء أبسط أدوارها في توفير الخدمات الأساسية.

والأسوأ من ذلك أن بعضها يأتي بعد دقائق من عرض مشاهد أخرى للسيسي وهو يفتتح قصورًا رئاسية جديدة أو يتحدث من خلف مكاتب فاخرة في العاصمة الإدارية، ما يعزز صورة “السلطة الغنية والشعب الفقير”.

 

مدن الأثرياء.. العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة

الوجه الآخر للبذخ الرسمي يظهر بوضوح في المدن الجديدة التي أنشأها النظام، وعلى رأسها العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة.

هذه المدن، التي يُروّج لها كـ “رمز لمصر الحديثة”، تثير جدلاً واسعاً حول جدواها الاقتصادية والاجتماعية.

فالعاصمة الإدارية، بمبانيها الزجاجية الشاهقة، ومساحاتها الواسعة، وأسعارها التي لا يقدر عليها سوى الأثرياء، تحولت إلى رمز للفجوة الطبقية.

في الوقت نفسه، يعيش ملايين المصريين في قرى بلا مياه نظيفة أو صرف صحي أو مستشفيات لائقة.

أرقام البنك الدولي والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تكشف عن ارتفاع معدلات الفقر إلى أكثر من 60% من السكان، بينما تشير تقارير أخرى إلى أن الطبقة الوسطى تتآكل بسرعة غير مسبوقة.

ورغم ذلك، تستمر الحكومة في ضخ استثمارات ضخمة في مشروعات تخدم نخبة محدودة من رجال الأعمال والمسؤولين، في الوقت الذي تطلب فيه من المواطنين “الصبر والتقشف والمشاركة بالتبرع”.

 

المفارقة الأخلاقية والسياسية

هذا التناقض بين “التسول الإعلامي” و”البذخ الرسمي” لا يقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل يحمل دلالات سياسية وأخلاقية عميقة.

فالدولة التي ترفع شعار “نحارب الفقر” لا يمكن أن تكون هي نفسها التي تبرر إنفاق مئات الملايين على مظاهر فخمة لتلميع صورتها أمام العالم.

يقول محللون إن السيسي يعتمد على سياسة “الإبهار الخارجي” كأداة لتثبيت شرعيته السياسية داخليًا وخارجيًا، عبر تقديم مشروعات ضخمة تثير الإعجاب لدى الزوار الأجانب، بينما يتم تجاهل المشكلات اليومية التي تثقل كاهل المواطن.

النتيجة هي مجتمع يعيش انقسامًا بين “مصر الرسمية” التي تُعرض في الإعلانات والافتتاحات، و”مصر الواقعية” التي تُعاني البطالة والغلاء وتراجع الخدمات. هذا الانقسام يولّد إحباطًا عامًا ويفقد المواطنين الثقة في خطاب الدولة ومشروعاتها.

 

بين الصورة والحقيقة.. أي مصر نريد؟

القضية في جوهرها ليست رفض التنمية أو بناء المتاحف والمدن الجديدة، بل في أولويات الصرف وعدالة التوزيع.

من حق المصريين أن يفتخروا بصرح حضاري مثل المتحف الكبير، لكن من حقهم أيضاً أن يجدوا مياهًا نظيفة في بيوتهم، وتعليمًا جيدًا لأطفالهم، ومستشفيات قادرة على علاجهم دون توسلات على الشاشات.

ما تحتاجه مصر ليس مزيدًا من الإعلانات الباذخة أو الخطابات العاطفية، بل رؤية تنموية متوازنة تُعيد الاعتبار للإنسان المصري قبل الحجر.

فالدولة التي تضع الفقراء في طوابير “التبرع” ثم تُنفق المليارات على واجهاتها المعمارية، هي دولة تفقد بوصلتها الأخلاقية وتغفل جوهر العدالة الاجتماعية.

 

ختاما يبقى مشهد السيسي في افتتاح المتحف المصري الكبير مثالاً مكثفاً للتناقض بين خطاب “التقشف والصبر” الذي يوجهه للمواطنين، وصورة الثراء والبذخ التي تحيط به في كل ظهور.

وبينما يُطلب من المصريين “تحمل الظروف الصعبة”، تُصرف مليارات من أموالهم على مشروعات لا تعود عليهم بالنفع المباشر.

هكذا تتجسد مصر اليوم في مشهدين متناقضين: دولة تستعرض مجدها بالحجر، وشعب يئن تحت وطأة الفقر. وبينهما، يظل السؤال الأهم بلا إجابة: متى يصبح المصري أولاً في وطنه، لا مجرد متفرج على أحلام الأغنياء تُبنى بأموال الفقراء؟

 

شاهد:

https://x.com/Temo_Maverick/status/1978191413889126865

https://www.facebook.com/reel/2394627717621359