تعيش مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور في السودان، واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخ البلاد الحديث، في ظل حصار خانق تفرضه قوات الدعم السريع، وانهيار شبه تام للمنظومة الأمنية والإنسانية، وسط تقارير متزايدة عن إعدامات ميدانية علنية للمدنيين بتهم "التهريب"، لمجرد إدخال طحين أو أرز أو حتى علبة سجائر.

 

وقد انتشرت خلال الأيام الماضية مقاطع مصورة على منصات التواصل الاجتماعي، تُظهر مسلحين يطلقون النار على رجال عزل أمام حشود من الناس، بزعم إدخالهم مواد غذائية إلى الفاشر، ما يؤكد ما تتداوله منظمات حقوقية حول حالة انهيار تام لسيادة القانون، وتحكم ميليشيات مسلحة في مصير المدنيين.
 

 

عقاب جماعي لمن يطعم الفاشر

 

بحسب شهادات من داخل المدينة، فإن قوات الدعم السريع والمجموعات المتحالفة معها تفرض سيطرة مطلقة على الطرق المؤدية إلى الفاشر، وتُعامل أي محاولة لإدخال المواد الأساسية كـ"تهريب"، يُعاقب عليها بالرمي بالرصاص دون محاكمة أو تحقيق.

 

وقد قال أحد سكان المدينة في اتصال مع وكالة إعلامية دولية: "شاب عشريني حاول إدخال جوال دقيق إلى أسرته داخل الفاشر.. أوقفه عناصر مسلحة، سألوه ماذا تحمل، ولما عرفوا أنه دقيق، أجبروه على الركوع أمام الناس ثم أطلقوا عليه النار على الفور. كل من كان هناك شهِد هذا المشهد الوحشي."

 

ليست هذه الحادثة الأولى، بل هي واحدة من سلسلة من الإعدامات العلنية التي تُنفّذ كرسالة ترهيب لأي محاولة لكسر الحصار، أو إدخال الغذاء إلى المدينة، في انتهاك صارخ لكل المعاهدات الدولية التي تحظر استهداف المدنيين أو تجويعهم كأسلوب في الحرب.
 

 

الفاشر.. المدينة التي تتنفس تحت الحصار

 

تضم مدينة الفاشر نحو مليون نسمة من المدنيين، بينهم عشرات الآلاف من النازحين الذين فرّوا من مناطق دارفور الأخرى بعد موجات العنف السابقة. لكن المدينة باتت اليوم سجنًا مفتوحًا، يُمنع عنها الغذاء والدواء، وتتحوّل تدريجيًا إلى بؤرة مجاعة، في ظل عجز المنظمات الدولية عن التدخل.

 

وقد أصدرت منظمة أطباء بلا حدود بيانًا مؤخرًا يحذر من "كارثة طبية وإنسانية" تلوح في الأفق، مع انهيار المستشفيات ونفاد الأدوية، بينما أصبح الحصول على الماء النظيف تحديًا يوميًا يهدد حياة السكان، خاصة الأطفال والمسنين.

 

جرائم حرب تُرتكب على الهواء مباشرة

 

ما يثير الرعب أكثر، هو أن هذه الإعدامات العلنية لا تُخفى، بل يتم تصويرها أحيانًا وبثها أو تسريبها كوسيلة لإرهاب بقية السكان، وهي ممارسة تذكّر بجرائم جماعية شهدتها مناطق الصراع في رواندا وسوريا واليمن، حيث يتحوّل القتل إلى أداة لإدارة المجتمع.

 

القانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف، تجرّم استخدام التجويع كسلاح، وتمنع استهداف المدنيين أو حرمانهم من الضروريات الأساسية. ومع ذلك، لا يُسمع صوت للمجتمع الدولي، في ظل انشغال العالم بأزمات أخرى، وعجز مجلس الأمن عن اتخاذ موقف حازم، بسبب تعقيدات سياسية ودبلوماسية.

 

 

أين الحكومة؟ وأين العالم؟

 

في ظل الانقسام السياسي الحاد في السودان، وغياب حكومة مركزية فعالة، تُترك المدن مثل الفاشر رهينة للميليشيات، دون رادع أو حماية. أما المجتمع الدولي، فقد اكتفى ببيانات الإدانة، دون أي تحرّك فعلي لوقف الإعدامات أو إيصال الإغاثة الإنسانية.

 

ويحذر مراقبون من أن صمت العالم هو ضوء أخضر للمزيد من الانتهاكات، وأن التهاون مع مثل هذه الجرائم سيشجّع تكرارها في مناطق أخرى، داخل السودان وخارجه.

 

الفاشر تحت النار.. والعالم يدير وجهه

 

ما يحدث في الفاشر اليوم ليس فقط مأساة إنسانية، بل جريمة حرب ترتكب على الهواء مباشرة، وبعلم الجميع. تجويع السكان، إعدام من يحاول إدخال الطعام، وفرض حصار مطبق على مدينة كاملة، كلها مؤشرات على دخول دارفور في مرحلة جديدة من الجحيم، تُدار فيها الحياة والموت بقرار من الميليشيات.

 

ومع كل يوم تأخير في التدخل الدولي، تزداد قائمة الضحايا، ويتسع الجرح المفتوح في جسد السودان المنهك.