إحدى الطرق التي يستخدمها نظام دونالد ترامب للتشتيت والتضليل هي تركيز الأنظار على الولايات المتحدة – قوتها الهائلة في الترهيب والضغط على الدول الأخرى، بالإضافة إلى نفوذها المالي الكبير الذي تمارسه من خلال مؤسسات مثل USAID.

ومع ذلك، بينما يعرض ترامب أجندته على المسرح العالمي، فإنه في الوقت نفسه يقوم بتقليص دور الولايات المتحدة إلى الحد الأدنى، لتصبح قوة إمبريالية تتدخل فقط وفقًا لتحالفاتها ومصالحها الخاصة. ففي الوقت الذي يتم فيه تصوير أموال دافعي الضرائب الأمريكيين على أنها ثمينة للغاية، نجد أن ترامب لا يتردد في إنفاق مليارات الدولارات على مقترحات للسيطرة على أراضٍ كاملة في غزة أو تقديم مساعدات ضخمة لإسرائيل. هذا ليس انعزالًا، بل هو أحادية الجانب في اتخاذ القرارات.

وبهذا النهج، تتراجع الولايات المتحدة عن دورها التقليدي كقوة أخلاقية وعسكرية واقتصادية، تاركة العالم يتشكل دون تدخلها المباشر كما كان الحال في الماضي. لم يكن هذا الانسحاب مفاجئًا، بل جاء نتيجة مسار طويل بدأ منذ انتهاء الحرب الباردة، عندما توقع البعض أن يسود نظام عالمي جديد تقوم على أساسه القيم الليبرالية والرأسمالية، حيث تترسخ الديمقراطية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وحكوماته الاستبدادية في أوروبا الشرقية. ولكن على مدى العقود الثلاثة الماضية، توسعت الولايات المتحدة عسكريًا ثم انكفأت على نفسها، منهكةً بحروبها وصراعاتها الداخلية.

 

من التدخل العسكري إلى الانسحاب

خلال هذه الفترة، انخرطت الولايات المتحدة في عمليات عسكرية مكثفة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا تحت ذريعة نشر الأمن والديمقراطية، لكنها أنهت هذه الحقبة بانسحاب متسرع من أفغانستان دون تحقيق أهدافها، وتقليص وجودها العسكري في العراق، فضلاً عن ترك العديد من المناصب الدبلوماسية شاغرة في مناطق حساسة. فعلى سبيل المثال، في 7 أكتوبر 2023، لم يكن للولايات المتحدة سفراء في إسرائيل أو مصر أو لبنان، وهو مؤشر على تراجع نفوذها الدبلوماسي في لحظة حرجة.

أحد الأسباب الرئيسية لهذا التراجع كان حرب العراق، التي استنزفت الموارد وشلت قدرة واشنطن على تبني أجندة خارجية فعالة. وقبل إعادة انتخاب ترامب، أخبرني مسؤول سابق في السياسة الخارجية أن وزارة الخارجية الأمريكية تعاني من "جمود تاريخي"، ووصف وضعها بأنه يشبه "مشاهدة أفلام رعاة البقر القديمة مرارًا وتكرارًا"، في إشارة إلى عجزها عن التكيف مع التغيرات العالمية.

 

العالم يتغير وأمريكا تتراجع

خلال هذا الوقت، تغير العالم بشكل كبير. لطالما استندت الهيمنة الأمريكية إلى افتراض أن الدول الأخرى لن تتمكن من تحقيق قوة اقتصادية واستراتيجية كافية لتحدي النظام العالمي الذي تقوده واشنطن. لكن هذا لم يعد الحال الآن.

وفقًا للإحصاءات، أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لإفريقيا، حيث يذهب 20% من صادرات القارة إليها، وتأتي 16% من وارداتها من الصين. كما أن الاستثمارات الصينية المباشرة تلعب دورًا حيويًا في تنمية القارة، وتركز بشكل استراتيجي على قطاعات النقل والتعدين والطاقة والبنية التحتية. وبالإضافة إلى الصين، ازدادت التجارة بين دول الجنوب، بينما تراجعت التجارة بين دول الشمال، لا سيما منذ الأزمة المالية العالمية، مما أدى إلى تكوين نظام عالمي أكثر استقلالية عن النفوذ الأمريكي.

 

صعود القوى الإقليمية وتأثيرها على النفوذ الأمريكي

في الشرق الأوسط، تستخدم القوى الإقليمية ثرواتها لتعزيز نفوذها العالمي. فمنذ إعادة انتخابه، سعى ترامب إلى التقرب من السعودية، عارضًا عليها أن تكون أول وجهة خارجية له بشرط تنفيذها استثمارات ضخمة في الولايات المتحدة تقدر بنصف تريليون دولار. في الوقت نفسه، تستثمر قطر مليارات الدولارات في الاقتصاد الأمريكي، بينما صنفت الإمارات الولايات المتحدة كأحد أهم الوجهات لاستثماراتها السيادية.

لكن هذه الدول لا تركز فقط على واشنطن، بل توسع نفوذها الإقليمي أيضًا، حيث تعزز علاقاتها مع تركيا في محاولة للابتعاد عن الاعتماد الكلي على الغرب، والتحوط ضد أي تغييرات في السياسة الأمريكية تجاه الخليج. هذا التحول يعكس حقيقة أن مركز الثقل في الاقتصاد العالمي بدأ يتحرك باتجاه منطقة الهند والمحيط الهادئ، مما يترجم إلى نفوذ سياسي أكبر لهذه الدول.

 

تحدي العقوبات الأمريكية

يؤدي هذا التغيير في ميزان القوى إلى إضعاف قدرة الولايات المتحدة على فرض إرادتها عالميًا. فروسيا، على سبيل المثال، تمكنت جزئيًا من تجاوز العقوبات الغربية من خلال التجارة مع الصين والإمارات وتركيا – وهي دول أصبحت قوية للغاية ومندمجة في الاقتصاد العالمي بشكل يجعل فرض عقوبات ثانوية عليها أمرًا صعبًا.

وبالمثل، فإن العقوبات الأمريكية على الأطراف المتحاربة في السودان لن يكون لها تأثير يذكر، حيث تستطيع جهات مثل إيران والإمارات تزويد المتحاربين بالأسلحة دون الخضوع لرقابة أمريكية فعالة.

 

ترامب يسرّع عملية التحول العالمي

السبب الرئيسي وراء تراجع قدرة الولايات المتحدة على الإكراه والإقناع هو نفس العولمة التي كان من المفترض أن تضع واشنطن في موقع القيادة العالمية. فقد أدت حرية حركة رأس المال وتخفيض الحواجز التجارية وتنوع مصادر الدخل الوطني إلى خلق عالم أكثر تعقيدًا، حيث لم يعد من الممكن تقسيم الدول إلى "محاور شر" خاضعة للعقوبات وأخرى مطيعة للولايات المتحدة.

الآن، يمكن تقسيم العالم إلى دول لديها قوة اقتصادية وتحالفات تجارية عالمية، وأخرى لا تملك أيًا منهما لكنها باتت قادرة على إيجاد شركاء بعيدًا عن النفوذ الأمريكي. ومع وجود ترامب في السلطة، فإن أي حكومة تمتلك القدرة على "التحوط" ضد السياسات الأمريكية المتقلبة ستسعى بالتأكيد إلى ذلك.

 

عالم جديد يتشكل

ترامب، من خلال انسحابه الانتقائي وتدخله العدواني في أماكن أخرى، قد يخلق فراغًا عالميًا من جهة، ومن جهة أخرى، يثير ردود فعل تدفع باتجاه تشكيل نظام عالمي جديد أكثر تعددية. المفارقة هي أنه بينما يلقي ترامب بظلاله القاتمة على السياسة العالمية، فإن المزيد والمزيد من الدول بدأت تخرج من ظل النفوذ الأمريكي.

إنها نهاية "نهاية التاريخ"، وبداية فصل جديد، يتسم بالصفقات المباشرة وتعدد اللاعبين، حيث أصبح النفوذ السياسي أكثر تنافسية من أي وقت مضى. ومع استمرار ترامب في تحركاته، فإنه قد يكون المحفز الرئيسي لهذا التغيير، حتى وإن لم يكن هذا ما يريده أو يتوقعه.

https://www.theguardian.com/commentisfree/2025/feb/10/donald-trump-remaking-world-international-doctrine