أ جمعة أمين
ما أصعب أن تنقطع الصلة بينك وبين إخوانك بسبب المرض أو أى سبب آخر يحول بينك وبينهم، ويزداد الوضع صعوبة إن كانت الصلة بينك وبينهم من خلال سطور تكتبها أو مقالة تخطها، وهذا ما حدث معى خلال الزيارة المسموح بها ولا الكتابة أستطيعها ولا تملك إلا أن تصبر وتسترجع وتسأل الله ألا يحرمك لقاء إخوانك وحديثهم؛ فهم الهواء العليل الذى تتنفسه، وهم الماء الذى تشربه، بل هم الحياة التى بهم تحيا.
وبهذه المناسبة فإنى عاجز عن التعبير عن مشاعرى تجاه إخوانى الذين غمرونى بدعواتهم التى استجيبت بفضل الله أولا وأخيرا، وها أنا ذا أحاول معاودة الكتابة لأصل بها ما انقطع وأنا على يقين من أنى إن لم أكن بهم فلست بغيرهم.
وقلت لنفسى ماذا أكتب بعد انقطاع وتذكرت ذكرى الإمام حسن البنا، ولكن ما أصعب هذا الاختيار؛ فمن أين أبدأ، أمن مولده وموهبته، أم من فهمه وتطبيقه، ومجالسة العلماء الذين كانوا يترددون على والده فى جلساته العلمية ونسرع الخطا لنرى كيف بدأ الإمام البنا خطواته بعد أن انتقل إلى الإسماعيلية فى 16 من سبتمبر 1927م لتسلم عمله كمدرس بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية.
لقد جاءت جماعة الإخوان المسلمين والعالم الإسلامى تحت نير الاستعمار الأوروبى بعلمانيته، مع بقاء حقده الصليبى وانحسر القرن الثامن عشر والعالم الإسلامى يسيطر عليه:
1- الاحتلال بألوانه عسكريا واقتصاديا وثقافيا.
2- بعد سقوط الخلافة 1924 أبعدت الشريعة الإسلامية مقابل القوانين الوضعية.
3- تمزق الأمة الإسلامية إلى دول.
4- التخلف العلمى والأمية الدينية والتعصب المذهبى، والفهم المشوه للإسلام وإبعاد العقيدة عن أثرها الفعال فى بناء الرجال وتصحيح المفاهيم.
ولذلك عمل البنا على:
1- تخليص العقيدة من الجمود الذى أصابها.
2- النقلة فى فهم الإسلام من الجزئية إلى الكلية.
3- التربية بشمولها لصياغة الفرد المسلم والمجتمع والحكومة.
4- والمناداة بفتح باب الاجتهاد بقواعده الشرعية ومعالجته لمشاكل عصره.
ولقد حدد خطوات عمله، ومن أين يبدأ؟ فبدأ أول ما بدأ:
أولا: تربية الفرد المسلم (صف ربانى– كونو ربانيين) بصفاته العشر [قوى الجسم- متين الخلق– مثقف الفكر– قادر على الكسب– سليم العقيدة– صحيح العبادة– مجاهد لنفسه– حريص على وقته– منظم فى شئونه– نافع لغيره] والجماعة بصفاتها (أركان البيعة)، (قوة الرباط الإيمانى والتنظيمى).
ثانيا: تكوين البيت المسلم بأن يحمل الرجل أهله على احترام فكرته والمحافظة على آداب الإسلام فى كل مظاهر الحياة.
ثالثا: إرشاد المجتمع بنشر دعوة الخير فيه ومحاربة المنكرات.
رابعا: تحرير الوطن من كل ما هو أجنبى.
خامسا: إصلاح الحكومة.
سادسا: إعادة الكيان الدولى للأمة الإسلامية.
سابعا: أستاذية العالم.
وبذلك ظهرت معالم شخصية الإمام البنا التى امتازت:
1- قوة الإيمان والعمل له والتضيحة من أجله وشعوره بالمسئولية والدعوة إليه.
2- الفهم الدقيق للإسلام [تبدأ بالتربية ثم التعريف والتكوين ثم التنفيذ].
3- التأسى بالنبى -صلى الله عليه وسلم- قولا وعملا وحركة.
4- العمل الدائم المتواصل المنظم من خلال جماعة لها منهج وأفراد وقيادة.
5- كان سياسيا محنكا وأعطى معنى أخلاقيا لها.
6- كان مصلحا اجتماعيا.
7- الوسطية والاعتدال (فى دعوته وحركته).
8- التخطيط والتنظيم.
9- الإيمان بوحدة الأمة الإسلامية.
10- الجهاد فى سبيل الله حتى يسترد ما فقدته الأمة من مكانة.
كيف تنجح الدعوة:
أولا: وضوح الرؤيا وظهورها كالشمس فى رابعة النهار (اقرأ.. لا تطعه..) فالعلم التكوينى– والمزاد الربانى– والحركة المنضبطة– قم الليل– يا أيها المدثر.
ثانيا: انطباقها مع حاجة الناس (النفسية– والروحية– والمادية).
ثالثا: إيجاد أنصار حولها يلتقون، ولها يعملون، وفى سبيلها يضحون، نصرة الدعوة– وحماية الفكرة ((وإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ(81))) [آل عمران].
رابعا: تجتاز الدعوة بربانيتها وتأييد الله لها وللقائمين بها كل الصعاب ((.. وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ (47))) [الروم].
ولا يتحقق ذلك إلا إذا تغيرت النفوس وتطهرت القلوب.
يقول الإمام البنا ناصحا أتباعه:
أيها الإخوان: العمل مع النفس هو أول واجباتها، فجاهدوا أنفسكم واحملوها على تعاليم الإسلام وأحكامه ولا تتهاونوا فى ذلك بأى وجه من الوجوه، أدوا الفرائض، وأقبلوا على الطاعة، وفروا من الإثم، وتطهروا من العصيان، واجعلوا قلوبكم ومشاعركم دائما موصولة بالله الذى له ملك السموات والأرض، قاوموا الكسل والعجز، ووجهوا شبابكم ومشاعركم وعواطفكم إلى الفضيلة الطاهرة النقية، خالفوا نزعات الطيش ومضلات الهوى، واحرصوا على الوقت فلا تصرفوه فى غير فائدة، وحاسبوا أنفسكم فيه حسابا عسيرا، واحذروا أن تمر بكم دقيقة واحدة لا تكون لأحدكم فيها عمل طيب وسعى مبرور.
يقول الإمام الشهيد فى مذكراته:
يا أبناء أمتنا العزيزة علينا.. المحببة إلينا: نحن مسلمون وكفى، ومنهاجنا منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكفى، وعقيدتها مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله وكفى.
هل أنتم على استعداد؟
هل أنتم على استعداد بحق لتجاهدوا ويستريح الناس؟
وتزرعوا ليحصد الناس؟
وأخيرا لتموتوا وتحيا أمتكم؟
وهل أعددتم أنفسكم بحق لتكونوا القربان الذى يرفع الله به هذه الأمة إلى مكانتها؟
اسمع إليه وهو يخاطب أتباعه:
- أحب أن أصارحكم: إن دعوتكم ما زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدكرون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم الكثير من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات، وفى هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصاحب الدعوات، أما الآن فما زلتم مجهولين وما زلتم تمهدون للدعوة وتستعدون لما تتطلبه من كفاح وجهاد، سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة فى طريقكم، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم فى سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف فى وجهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل فى طريقكم.
وسيتذرع الغاضبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون من أجل ذلك بالحكومات الضعيفة، والأخلاق الضعيفة، والأيدى الممتدة إليهم بالسؤال، وعليكم بالإساءة والعدوان، ويثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة وأن يظهروها للناس فى أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومعتدين بأموالهم ونفوذهم ((يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ (8))) [الصف]. وستدخلون بذلك -ولا شك- فى دور التجربة والامتحان، فتسجنون وتعتقلون وتقتلون وتشردون وتصادر مصالحكم وتعطل أعمالكم وتفتش بيوتكم، وقد يطور بكم مدى هذا الامتحان ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2))) [العنكبوت]، ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10))) [الصف]، ((فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14))) [الصف]. فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصار الله؟
أيها الإخوان:
- ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الواقع فى أضواء الخيال الزاهية البراقة، ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلاّبة، ولكن غالبوها، واستخدموها، وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض وترقبوا ساعة النصر وما هى منكم ببعيد.
أيها الإخوان:
- لا تيأسوا فليس اليأس من أخلاق المسلمين، وحقائق اليوم أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد، وما زال فى الوقت متسع، وما زالت عناصر السلامة قوية عظيمة فى نفوس شعوبكم المؤمنة رغم طغيان مظاهر الفساد، والضعيف لا يظل ضعيفا طوال حياته، والقوى لا تدوم قوته أبد الآبدين ((ونُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ ونَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ونَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ (5) ونُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ..)) [القصص: 5–6].
- إن الزمان سيتمخض عن الكثير من الحوادث الجسام، وإن الفرص للأعمال العظيمة ستسنح وتكون، وإن العالم ينتظر دعوتكم، دعوة الهداية والفوز والسلام، لتخلصه مما هو فيه من الآلام، وإن الدور عليكم فى قيادة الأمم، وسيادة الشعوب ((وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)) [آل عمران: 140]، ((وتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)) [النساء: 104]، فاستعدوا واعملوا اليوم، فقد تعجزون عن العمل غدا.
- وقد يقول قائل: ما لهؤلاء الجماعة يكتبون فى هذه المعانى التى لا يمكن أن تتحقق؟!! وما بالهم يسبحون فى جو من الخيال والأحلام؟!! على رسلكم أيها الإخوان فى الإسلام والملة، فإن ما ترونه اليوم غامضا بعيدا كان عند أسلافكم بديهيا قريبا، ولن يثمر جهادكم حتى يكون كذلك عندكم، وصدقونى إن المسلمين الأولين فهموا من القرآن الكريم لأول ما قرءوه ونزل فيهم، ما ندلى به اليوم إليكم ونقصه عليكم.