د. ياسر علي
ويل للذين ينظرون إلي الأشياء من جانب واحد.. ويل وويل للإنسان منهم ولن نجد علي وجه الأرض أشد منهم ظلما ولا أسقم فهما
هذه الكلمات كتبها الأستاذ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في قصاصة ورقية وضعها بين ثنايا كتاب كان من آخر الكتب التي ضمها لمكتبته وهو كتاب هذه هي الأغلال, و الصادر عام1946 ولا تزال هذه الكلمات تصلح لتوصيف الأغلال التي تحيط بمجتمعنا المصري عندما يصر بعض الأطراف علي رؤية الحقائق من جانب واحد والإصرار علي تقييم الآخر والتعامل معه من خلال رؤية معلبة دون ان يعطي لنفسه الفرصة لاستكشاف حقيقة الأشياء والأشخاص والافكار التي تمثل هذا الطرف اوذاك.
حسن البنا و نحن في ظلال استشهاده في12 فبراير1949 بعد أن قدم للمجتمع المصري اجتهادا جديدا في حركة الدين والعقيدة في الدنيا سياسيا واجتماعيا وإقتصاديا وقدم مفهوما للإسلام الشامل كما آمن به واعتقده مشمولا بالتطبيق وليس بالتنظير فقط.
حسن البنا ولد في عام1906 في نفس العام الذي توفي فيه الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية الاسبق والذي قدم لمصر نموذجا لرجل الدين القادر علي أن يعيش عصره وينفتح علي قضايا مجتمعه وأمته وأن يعترك السياسة والحركة الوطنية كما يعترك مع التراث ناقدا وشارحا ومفسرا.
استكمل حسن البنا مسيرة طويلة من الإصلاح والعمل المضني من أجل التأكيد علي ما آمن به واعتقده طوال حياته وحتي وفاته وهو ما عبر عنه الشيخ المراغي شيخ الأزهر' رحمه الله' عندما كتب عن حسن البنا في مجلة المنار واصفا فقال:
' إن الأستاذ حسن البنا مسلم صادق غيور يفقه أسرار الإسلام ويعرف الوسط الذي يعيش فيه ولقد شغل نفسه بالدعوة إلي الله علي ما كان عليه سلف الأمة الصالح'
إن وقفة متجددة في ذكري استشهاد الرجل تجعلني في إطار الواقع السياسي الذي تعيشه مصر هذه الأيام, أتساءل مع قارئي, هل كان هناك ضرورة لوجود حسن البنا والتيار الذي أسسه ولايزال حيا وفاعلا في الواقع المصري والعربي والإسلامي المعاصر بمعني هل كانت هناك ضرورة حقيقية أعطت لهذا التيار شرعية الوجود الحقيقي ؟.
والسؤال الثاني هو إلي أي مدي تقاطع مشروع الرجل والكيان الذي أنشأه مع القضية الوطنية التي عاشها المجتمع المصري في هذه الفترة الطويلة وهل مثل حسن البنا وتياره إضافة للقضية الوطنية في أبعادها السياسية والاقتصادية أم كان عبئا عليها ؟
وللإجابة عن السؤال الأول وبمنطق قانون التحدي والاستجابة لابد من العودة إلي ملامح الجغرافيا السياسية التي شكلت بأبعادها المختلفة الدافع إلي وجود حسن البنا والتيار الذي أوجده.
إن اتفاقية' سايكس بيكو' والتي وقعت في مايو عام1916 بين فرنسا وبريطانيا بمباركة روسية جاءت لتصفية وتقاسم ممتلكات السلطة العثمانية خارج تركيا بعد أن خسرت تركيا الحرب العالمية الأولي, وقد راعت بريطانيا وفرنسا في اتفاقية' سايكس بيكو' أن تقسم بلاد الشام إلي أربعة كيانات هي' سوريا ولبنان والأردن وفلسطين' ليجئ وعد بلفور- والذي جري انجازه بعد سنة من الاتفاقية- مانحا للصهاينة وطنا في فلسطين ليفصل هذا الكيان الاستعماري بين مصر والشام حيث يصعب في وجوده قيام أي محاولة لدولة عربية كبري أو عودة حلم الوحدة الإسلامية.
وفي مارس1924 أعلن في تركيا عن إسقاط الخلافة الإسلامية والتي كانت الشكل السياسي الذي وحد المسلمين علي مدار ثلاثة عشر قرنا حيث شغل الإسلام دورا مهما في إدارة شئون الحكم.
وعلي الرغم من أن الخلافة العثمانية لم تكن القوة الإسلامية الوحيدة في تلك الفترة التي تصاعدت فيها موجات المد الإستعماري لكنها كانت مركز الثقل الرئيسي لكل أبناء العالم الإسلامي بوصفها الشكل الأكبر لوحدة المسلمين.
وبمجرد الإعلان عن سقوط الخلافة تكررت النداءات والدعوات والمبادرات لعقد مؤتمرات في أرجاء العالم الإسلامي لإيجاد رؤية واضحة حول هذا الحدث الجلل الذي يمر به المسلمون لأول مرة علي مدي-+* تاريخهم خصوصا مع ثقل الضغط الإستعماري الغربي علي العالم الإسلامي من جاكرتا إلي طنجة.
وبدأت هذه النداءات في التحول إلي عمل حقيقي حيث عقد الخليفة العثماني المخلوع عبد المجيد الثاني نفسه بعد بضعة أيام من الاعلان مؤتمرا صحفيا في سويسرا أكد فيه رفضه لقرارالبرلمان التركي ودعا فيه قيادات العالم الإسلامي لتنظيم مؤتمر دولي لمناقشة الأوضاع الخطيرة التي ترتبت علي إلغاء الخلافة.
وجاء الرد الأول من حاضرة العالم الإسلام الكبيرة من القاهرة من مصر من بلد الأزهر الشريف حيث قام شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمد أبي الفضل بتشكيل لجان متعددة وأمانة عامة لمؤتمر القاهرة والذي انعقد في مايو1926 بمشاركة كبيرة من وفود العالم الإسلامي, وفي ذلك المؤتمر طرح الشيخ محمد الأحمدي الظواهري كبير القضاة الشرعيين في ذلك الوقت وشيخ الأزهر بعد ذلك بثلاث سنوات اجتهادا سياسيا جديدا لموضوع الخليفة والخلافة, حيث فتح الباب للعمل لبناء رؤية متكاملة لهذه القضية والتي احتاجت لظهور تيار يتبناه فكريا وسياسيا حيث جاء في كلمته رحمه الله' إن انتخاب خليفة للمسلمين من خلال مؤتمر لاحق سوف يفي بكل متطلبات الشريعة شريطة أن يزداد تمثيل الدول الإسلامية في ذلك المؤتمر حيث سيكون انتخاب ذلك الخليفة بالاتفاق بين المسلمين'.
وعلي الرغم من فشل المؤتمر في إيجاد حلول ناجزة إلا أنه فتح الباب للتفكير والتدبر لإيجاد شكل معاصر للأمة الإسلامية تتحقق فيها شروط العزة والمنعة والخروج من الاحتلال الجاسم علي صدرها, وكان من بين هذه الاجتهادات ما نادي به الدكتور عبد الرازق السنهوري في أطروحته لدرجة الدكتوراه التي حملت عنوان' فقه الخلافة وتطورها لتصبح هيئة أمم شرقية' والتي كانت انعكاسا للحاجة الي وجود ذلك الاجتهاد.
وكان اجتهاد حسن البنا في هذا السياق والمتمثل في وضع تصور حركي متكامل لاعادة الامة الإسلامية ولعودة البناء الحضاري للإسلام حيث بدأ في تأسيس جمعية الإخوان المسلمين في عام1928 لتحقيق هذا الهدف لكن نقطة البداية عنده كانت من المسلم ذاته حتي يكون قابلا للنضال والعمل الحضاري.
فإلي أي مدي أثر هذا الاجتهاد في واقع وطنه وقضاياه وإلي اي مدي تكامل البنا في اجتهاده بين الإطار الآني الملح وهو قضية تحرير الوطن من الاستعمار و قضيته الاستراتيجية, وهي قضية الأمة والوحدة الإسلامية.
... نكمل الإجابة عن ذلك في المقال المقبل.. ولقارئي خالص الاحترام.
_________________
رئيس مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء
نقلا عن جريدة الأهرام

