د/ وائل عبده :
قال ابن عباس: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرج يريد مكّة، فلمّا بلغ الحُديبية وقفت ناقته، وزجرها فلم تنزجر، وبركت الناقة، فقال أصحابه: خلأت الناقة، فقال (صلى الله عليه وسلم): )ما هذا لها عادة، ولكن حبسها حابس الفيل(
ودعا عمر بن الخطّاب ليرسله إلى أهل مكّة، ليأذنوا له بأن يدخل مكّة، ويحل من عمرته وينحر هديه، فقال: يا رسول الله، ما لي بها حميم، وإنّي أخاف قريشاً لشدّة عداوتي إيّاها، ولكن أدلّك على رجل هو أعزّ بها منّي عثمان بن عفّان.
فقال: صدقت، فدعا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) عثمان، فأرسله إلى أبي سفيان وأشراف قريش؛ يخبرهم أنّه لم يأت لحرب، وإنّما جاء زائراً لهذا البيت معظّماً لحرمته، فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله(صلى الله عليه وسلم(والمسلمين أنّ عثمان قد قُتل.
فقال(صلى الله عليه وسلم): «لا نبرح حتّى نناجز القوم»، ودعا الناس إلى البيعة، فقام رسول الله(صلى الله عليه) إلى الشجرة فاستند إليها، وبايع الناس على أن يقاتلوا المشركين ولا يفرّوا
فأنزل الله تعالى عند ذلك قوله: (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيباً)(3)، ومن هنا سُمّيت هذه البيعة ببيعة الرضوان.
عند قراءة هذا الحدث نر ي أمامنا عظيما اسمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وموقفه من انتداب رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفا يعجب له الناس ومواقفه كلها عجب كيف وهو من قال عنه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري (إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محـدثـون وإنه إن كـان في أمتي هـذه منهم فـإنه عمر بن الخطاب) وقال عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم (فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه).
هذا العبقري أرسي مبدأ عظيما من مبادئ الادارة ألا وهي كيفية توظيف القدرات واختيارها لم تذهب نفسه إلي شرف أن يكون رسول رسول الله صلي الله عليه وسلم وياله من شرف عظيم في الدنيا والآخرة بل آثر مصلحة الدعوة علي استمتاع ذاته بتلك المكرمة .
أرسي العبقري مبدأ أن يختار الفرد وفق طبيعة المهمة ووفق قدراته فإذا كان الهدف سلميا مع قريش طلبا للسماح لهم بالعمرة فيكون رجلا لين الكلام قليل الخصومة وإذا كان المراد إنذار حرب فليكن رجلا شديد الكلام كثير الخصومة والناس أنماط وقدرات ولا كمال بشري الا للمعصوم صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء صلى الله عليهم وسلم.
أرسي العبقري مبدأ النصيحة فلم يخجل أن يقول ان إرساله هو غير مناسب, ولم يمنعه ان يقال عنه شيء ان ينصح حتي عن عدم مناسبته.
أرسي العبقري مبدأ أن يجعل طلب إقالته من المهمة لأسباب موضوعية وليست لأسباب نفسية وهمية .
أرسي العبقري مبدأ ألا يعتز بذاته فيقول أنا غير مناسب ولا يستنكف أن يقول لا أ صلح . بعضنا يعتبر بعض المهام كأنها غزوات وطلب الاعفاء منها تولي يوم الزحف في حين ان مضاءه هو وليس غيره المناسب فيها هي مضيعة للدعوة ومنع نصر ,ويعتبر أنه إن يتنحى هي منقصة ولا يحسب اذا فسد العمل لعله كان السبب بل يسهل عليه ان يحمل الظروف والمقابلين والمحيطين أسباب اخفاقه رغم أنه يمكن ان تكون كلمة ندت منه او ايمائه ظهرت له غيرت قلب من يواجهه أو تاريخ قريب محفوظ له يمنع القلوب أن تلين لكلامه وتأنس لمنطقه .
ولقد أرسي الحبيب صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة مبادئ ادارية عظيمة من منبع النبوة الذي لا ينتهي عطاؤه ولا ينضب معينه , ولم يغب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقوله عمر رضي الله عنه ولكنه أراد أن يربي الأمة بالموقف وينقل لها الحدث تعليما و أسوة للقادة والجنود كيف يكونون واي منهج يتبعون.
أرسي رسول الله صلى الله عليه وسلم مبدأ الاستجابة للرأي المخالف وقال له صدقت .
أرسي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثني علي رأي حسن يخالف رأيه الشريف وقال له صدقت.
بل أرسي رسول الله صلى الله عليه وسلم مبدأ إبراء ذمة العبقري بقوله صدقت فلا يتركه نهبا لظنون البعض به لطلب إقالته فيتهمه البعض بالجبن والخور.
أرسي رسول الله صلي الله صلى الله عليه وسلم إقرار علي مقاله العبقري في بيانه وصدق حجته .
أرسي رسول الله صلى الله عليه وسلم مبدأ نبويا كريما في أنه في تنازله عن قرار أخذه لمنطق أنسب للظرف منه فلم يقل هو راي القيادة تشقي إن خالفته بل سمع وسمح وهو منطق عظيم يتجلي فيه إيثار المصلحة العامة ولا يخالف رأي الشوري بل أعمل الحبيب صلى الله عليه وسلم الشوري أجمل إعمال وأعظم تطبيق وأوسع مجال في طرحه للأمر فلما تجلي له رأي آخر أقره وقال صدقت .
ما أحوجنا أن نتعلم من عمر بن الخطاب وأن يتملكنا إيثار الدعوة ومصلحتها علي إيثار حوز الشرف في العمل لدين الله فكم من متنح لمصلحة الدعوة تارك مهمة لمن هو أقدر منه هو أثوب عند الله من أن يقوم بها هو ,ظنا في نفسه القدرة عليها .
أيها الأخوة الكرام هي تذكرة وأمانة وأنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها.
هذه الخصال وغيرها وتلك الروح ومثلها استحقت أن يقول الله جل في علاه لهم (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيباً ) كم نشتاق أن ندخل في تلك الزمرة ونصبح في هذه الصحبة وننعم بتلك الصفة أن يرضي الله عنا والله إنا لنحبهم والله إنا لنعشق مواقفهم وتمني أن نقتدي بهم ليل نهار اللهم فأشهد إنا لهم تبعا ولهم خلفا اللهم لا تحرمنا مسيرتهم ولا تمنعنا صحبتهم اللهم آمين
تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ..........إن التشبه بالكرام فلاح

