شعبان عبد الرحمن
الاثنين التاسع من يناير الجاري، وضعت المحكمة الماليزية العليا نهاية لواحدة من أشد وأطول المعارك السياسية قسوة ومرارة.. فقد نال الزعيم الماليزي المعارض «أنور إبراهيم» حكماً بالبراءة من تهمة «اللواط» بعد مسيرة مليئة بالعذاب، امتدت لأربعة عشر عاماً (1998 - 2012م). القضية وصاحبها يستحقان وقفة متأنية، فهي واحدة من أشهر قضايا الكيد السياسي، وصاحبها البروفيسور «أنور إبراهيم» هو أول «إسلامي» - خلال نصف قرن - يخوض تجربة الحكم في أعلى مراتبه، وهو صاحب تجربة ثرية في الحكم والمعارضة، وصاحب تجربة مهمة في صناعة النهضة بماليزيا (حوالي 17 مليون نسمة على مساحة 330 ألف كم2)، وفي نفس الوقت، فقد وقع الرجل في فخ تجربة مريرة مع ألاعيب السياسة وغدرها. ويمثِّل «أنور إبراهيم» (68 عاماً) طرازاً فريداً وعنيداً في النضال السياسي السلمي من أجل الفكرة والمعتقد، فقد تمكن خلال مسيرة امتدت واحداً وأربعين عاماً (1971م - 2012م)، منذ أسس حركة «الشباب المسلم» في الجامعة، حتى انضم إلى حزب «أمنو» الحاكم، تمكن من بلورة مشروع حضاري إسلامي واضح المعالم، واستطاع الوصول بمشروعه إلى سدة الحكم، حيث أصبح الرجل الثاني في الدولة لمدة خمس سنوات (1993م - 1998م)، وكان اليد اليمنى لـ«محاضر محمد» في بناء النهضة الماليزية، كما كان قاب قوسين أو أدنى من اعتلاء سدة الحكم في البلاد، لأنه الأجدر - بلا منازع - بخلافة «محاضر محمد»، لكن عبادة السلطة ودسائس بطانة الحكم وطبقة الفساد عصفت بكل شيء، وألقت في روع «محاضر» أن «أنور» يستعد لثورة انقلابية يسيطر بها على البلاد؛ فعجَّل «محاضر» للغداء به قبل أن يتعشى. وجاءت الضربة القاصمة التي أدخلته السجن من «د. محاضر محمد»، باني النهضة الماليزية الحديثة، والذي شاركه «أنور» في بنائها يداً بيد، وكان له بمثابة الابن مع أبيه، والتلميذ مع أستاذه (وفق تعبيرات «أنور»)، وكان الاثنان مضرب المثل في التعاون والتفاهم والحب المتبادل.. وهكذا لعبة الصراع على السلطة تعمي المتصارعين، وتُفقدهم كل حواس الصداقة والقرابة، لدرجة أن الابن ينقلب على أبيه أو يقتله؛ ليزيحه من طريقه، وشهادات التاريخ مليئة بالأمثلة.. لمن يتعظ. كانت الثغرة التي تم النفاذ إلى «محاضر» منها وتوجيه ضربة قاتلة لـ «أنور» هي خلافات «أنور» العلنية في الرأي مع «محاضر»، والتي تم تصويرها لـ«محاضر محمد» على أنها محاولة من جانب «أنور» لإحداث انقلاب جماهيري مماثل لما حدث وقتها ضد «سوهارتو» في إندونيسيا الواقعة على بُعد خطوات من ماليزيا. وقد نجحت تلك القوى الشريرة فيما خططت تماماً، إذ حدثت الفتنة بالفعل، وتم عزل «أنور إبراهيم»، وإدخاله السجن يوم 20/9/1998م بتهم شنيعة سعت لاغتياله معنوياً وأخلاقياً، وتدميره سياسياً وجماهيرياً؛ مما أدى إلى سجنه ستة أعوام (1998م - 2004م)، وفرض العزل السياسي عليه أربعة أعوام أخرى (2004م - 2008 م)، وخرج الرجل من السجن في بداية عام 2004م، وقضى بعد ذلك أربعة أعوام من العزل السياسي قضاها خارج ماليزيا مشتغلاً بالتدريس في الجامعات ومتنقلاً في العديد من دول العالم، وانتهت فترة عزله سياسياً في 14/4/2008م. وبينما كان يستعد للعودة إلى ماليزيا ليواصل مسيرته السياسية من جديد، التقيته في حوار امتد أكثر من ثلاث ساعات متواصلة (نُشر بمجلة «المجتمع»، العدد 1699)، وطرحت عليه في تساؤلاتي كل التهم التي أفضت به إلى السجن، فقال لي يومها: «لا أنكر أن «محاضر محمد» قام ببناء نهضة ماليزيا، لكنني كنت شريكه كنائب له، وقد دار الخلاف بيني وبينه حول قضية نظافة الحكم والفساد الموجود، ففي الوقت الذي كان يتكلم فيه عن نظافة الحكم ومحاربة الفساد، أعطى مليارين من الدولارات لابنه عبر شركة بترولية في ماليزيا، وهناك وثائق بهذا تدينه، وتؤكد مساعدته لأولاده وأقربائه وأتباعه وأصدقائه من الماليزيين الآخرين.. وعندما رأيت الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ، أردت إنقاذ ماليزيا من هذا المصير الأسود، فحاولت إصدار قانون ضد الفساد، لكن أولاد «محاضر» والمنتفعين من الوزراء ومن الحزب حذَّروه بشدة من إصدار هذا القانون؛ لأنه سيطبق عليهم وسيسجنهم ويسبب لهم مشكلات كثيرة جداً»، أضاف قائلاً لي: «لقد سجنوني وحاولوا مسح كل إنجازاتي واسمي، حتى المدارس والمساجد التي أسستها راحوا يعيدون افتتاحها من جديد حتى يمسحوا اسمي من حوائطها، أو اللوحات التي تحمل اسمي، ثم يقومون بوضع أسمائهم.. لقد هاجموني بكل الصور، واتهموني بمشكلات جنسية، واتهموني بأنني إسلامي متشدد، ثم بأنني ذو ولاء أمريكي، ثم بأنني متعاون مع الـ(CIA)، ثم متعاون مع حركة «حماس»!! لم يتركوا شيئاً لتشويه سمعتي، لكنني أثق بوعي الشعوب وتفهُّمها لهذه اللعبة، وسيظهر الحق إن شاء الله».. انتهى. لم يكتف خصومه بذلك، بل واصلوا الدفع بالقضية في أروقة المحاكم سعياً لدمغه بأشنع تهمة أخلاقية (الشذوذ)، ثم توجيه الضربة القاضية لإنهاء حياته السياسية للأبد، لكن منصة القضاء أنصفته، ويوم القيامة سيكون الإنصاف الأكبر إن شاء الله تعالى، وبهذا يعود «أنور إبراهيم» لحلبة السياسة منتصراً، وسيشارك بقوة في الانتخابات القريبة القادمة، وأعتقد أنه سيواصل المفاجآت، فذلك الرجل صنف نادر من الناس في صلابته وقوته وثقته بالله تعالى ثم بنفسه.. فقد رد بعد الحكم عليه بالسجن يوم 14 من أبريل 1999م على سؤال لوسائل الإعلام: لقد حُكم عليك بالسجن، فماذا ستفعل؟! فكانت الإجابة بلا تردد: «سيستمر الكفاح، وستشتد حدته.. لقد هددني «محاضر محمد» قبل إقالتي قائلاً: «استقل، أو لأحاكمنك»، لكن العدالة هي روح البلد، وإن مصيبتنا أن هناك أناساً مستعدين لأن يبيعوا أنفسهم بثمن بخس». إن صاحب الرأي الحر البعيد عن الهوى والغرض لا شك يدفع فاتورة ذلك على يد أصحاب الأجندات الخاصة، وصاحب الموقف الصلب فيما يعتقد أنه حق لابد أن يدفع ثمن موقفه غالياً على يد أصحاب المواقف الرخيصة، وما فعله «أنور إبراهيم» وما فعلوه معه يصب في تلك الخانة.
ـــــــــ
(*) كاتب مصري- مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية

