آلاء حمزه :
من حق الشعوب التى ثارت على الديكتاتورية وفساد المؤسسات، أن تصمد وتتشبث من أجل الحفاظ على مكاسبها، لاسيما أنها ضحت بدمائها وقدمت الشهداء من أجل هذا الهدف النبيل، كما أن هذه الشعوب لن تتخلى عن قناعتها بتقديم المزيد من الشهداء، فى المواجهة مع المتربصين بمستقبلها، ممن يتآمرون على الحرية وحق الشعب فى حياة كريمة، وحق الأوطان فى استعادة كرامتها، بعد سنوات من التخاذل والانبطاح أمام قوى المصالح الدولية.
(1)
فى مصر، تبدو القضايا الحقيقية غائبة بفعل فاعل، رغم أننا دفعنا مئات الشهداء وآلاف المصابين، من أجل الإطاحة بحكم الفرد. لكن يبدو أن هناك قوى خفية تحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، من أجل إعادة إنتاج نظام الرئيس "المتنحى"، الذى ظل جاثما على صدورنا نحو 30 عاما. يوظفون الشعارات البراقة من أجل حشد الناس خلف دعوات مشبوهة، لا يمكن أن تعود بالخير على الوطن الذى تم استنزافه على مدار عقود، وعندما جاءت اللحظة الفارقة، إذ بفئة ضالة (ومضللة) تدفع بنا إلى مزيد من الاحتقان والفشل على كل المستويات.
وبدلا من أن تتحمل هذه الفئة الهامشية (سياسيا، وشعبيا) مسئولياتها الحقيقية وتقدم اقتراحات بنّاءة لخدمة الوطن، وأن تتخلى عن طموحاتها الخاصة، إذا بها تتبنى أفكارا لا يمكن أن تخرجنا من المأزق الاقتصادى والسياسى والاجتماعى الذى نعيشه حاليا، بسبب عمليات النهب والتجريف المنظم للموارد والكفاءات البشرية التى تسبب فيها الرئيس المخلوع وحاشيته.
(2)
يتساءل كثيرون عن تأثير الدعوة للعصيان المدنى، التى أطلقتها ائتلافات سياسية ومجموعات شبابية.. والحقيقة أن قضية التأثير تكاد تكون محسومة، لأن المجموعات والائتلافات صاحبة الدعوة لا تحظى بنفس شعبية التيارات السياسية التقليدية (التيار الإسلامى.. والأحزاب الكبيرة) المعارضة لفكرة العصيان المدنى، التى تحظى فى الوقت نفسه بـ85% من مقاعد البرلمان، ما يعنى أنها تعبر عن غالبية المصريين.
أولا: رفضت جماعة الإخوان المسلمين (أكبر فصيل سياسى)، وحزب الحرية والعدالة (صاحب الأكثرية البرلمانية) المشاركة فى هذه الدعوة، كونها "تمثل خطورة على مصلحة الوطن ومستقبله"، كما قال الدكتور محمود حسين (الأمين العام للجماعة):"نرفض هذه الدعوة، بل ندعو سائر المصريين إلى مضاعفة العمل والجهد من أجل بناء الدولة وليس هدمها".
ثانيا: حزبا "النور" و"الوفد" عبّرا عن موقفهما الرافض لفكرة العصيان المدنى, للحالة الحرجة، التى لا تستدعى الإضرابات ووقف عجلة الإنتاج، بل ضرورة التكاتف من أجل إعادة بناء الاقتصاد، فضلا عن أن العصيان المدنى يتعارض مع أهداف ثورة 25 يناير.
ثالثا: ناشد الأزهر الشريف (أكبر مؤسسة للإسلام السُنى فى العالم) الشباب الذين يروّجون لدعوة العصيان المدنى، ألا يسمحوا بتركيع مصر ودفعها لمزيد من الضعف والاحتياج المالى والاقتصادى لأعدائها (أصحاب نظرية الفوضى الخلاقة).. واعتبر الدكتور حسن الشافعى (رئيس المكتب الفنى لمشيخة الأزهر) أن الداعين للعصيان يخدمون أعداء الوطن بلا مقابل وينفذون فلسفتهم الهدامة للنيل من مصر.
(3)
تاريخيا، تم استخدام "العصيان المدنى" فى مواجهة القوانين غير العادلة، التى كانت تفرضها فى الغالب دول الاحتلال على الشعوب المحتلة، من هنا كانت هذه الخطوة الاعتراضية وسيلة لرفع الظلم، وقد استخدمها المناضل الهندى "غاندى" لتحقيق استقلال بلاده عن الإمبراطورية البريطانية، كما استخدمها المصريون فى ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطانى.
وفى الحالتين كانت الشعوب تلجأ للدخول فى عصيان مدنى هادف ومنضبط (غير فوضوى)، خلف قيادات معروفة بوطنيتها ومواقفها السياسية الواضحة، بل تحظى بقبول شعبى يجعلها تتحدث نيابة عنه، على عكس ما نراه الآن من دعوة فوضوية، ليست لها أهداف واضحة أو قيادة محل ثقة، والأهم أن الدعوة فى سياقها العام غير موضوعية وغير واقعية.
لا يمكن أن نلتمس العذر للمروجين لفكرة العصيان المدنى (ممن نحسن الظن بنوايا بعضهم)، كونهم يحاولون الضغط لتسريع خطوات الفترة الانتقالية، والتصدى لمحاولات إفراغ الثورة من مضمونها، عبر ما يسمى بالانقلاب على الشرعية الثورية، لأن الدعوة فى حد ذاتها تعنى تطبيق سياسة العقاب الجماعى على عموم المصريين، خاصة أن المدونات ومواقع التواصل الاجتماعى أصبحت متخمة بمخططات تم وضعها لتعليم المصريين كيفية إسقاط البلاد وإغراقها فى الفوضى العارمة.
(4)
الآن، لم يعد خافيا أن المخططين لهذا السيناريو الشيطانى عبارة عن منظومة متكاملة ومتشابكة، تعاهدت على إسقاط الدولة عبر الدسائس والمكائد.. لم يعد هناك مجال لإلقاء الاتهامات على اللهو الخفى أو الطرف الثالث أو حتى فلول للنظام السابق.. اتضح الآن بما لا يدع مجالا للشك أن هناك طابورا خامسا (وفئة مضللة) ينفذ مؤامرات خارجية وإقليمية لإراقة المزيد من الدماء، وزيادة الانهيار الاقتصادى والسياسى.. هم أنفسهم من قاموا بتفجير أحداث العنف المتتالية (ماسبيرو.. محمد محمود.. شارع مجلس الوزراء.. مذبحة بورسعيد)، قبل أن يرقصوا ر قصتهم الأخيرة ممثلة فى الدعوة للعصيان المدنى.

