حازم سعيد

حدث جلل ذلك الذي وقع لي هذا الأسبوع بفقدي لأمي العزيزة - رحمها الله -، وما كنت أنوي أن أشغلك به - عزيزى القارئ - خاصة وأني لست من أصحاب الكتابات الوجدانية العاطفية .

ولكن طيف أمي الحبيبة وبسمتها الرقيقة العطوفة تستغرقنى ، وأراه نوعاً من رد جميلها أن أنشر لك بعضاً من طيب أخلاقها ، وإن كنت يوماً ما أعجبت بشئ كتبته ، فما أنا إلا نبتت يدها ، وما أنا إلا كسبها وملك يمينها ..

 

صداقة .. وعطاء

علاقتي بأمي لم تكن مجرد علاقة ابن بأمه ، على الرغم من كم الدلع الذي نلته منها ، وكنت آخر العنقود ، الذي تلبى له كل الطلبات بلا استثناء .

ورغم أنها لم تكمل تعليمها ، إلا أنها كانت نعم المستشار فى كل مواقف حياتي ، وما زلت أذكر بسمتها الرقيقة حين أشكو لها معاملة صديق أو ظلم أخ أو أخت ، وهى تشير علي بما يهدينى الطريق .

حتى استفسارات سن البلوغ التى كنت أخجل أن أصارح بها أبى أو أخي ، كانت هي نعم من يجيب ويعلم بأدب الأم ونصح الشفيق .

ولن أنسي يا أمي حين خيرتك بين أكثر من فتاة فاخترت لي زوجتى التى أصبحت نعم الزوجة ببركة رأيك واختيارك .

لم نخرج عن رأي أمي ونصيحتها طوال حياتنا إلا مرة واحدة حين عارضت أمي اختيار أختى الكبيرة لزوجها ، وأصررنا جميعاً على أن نخالفها ، وكانت بئس المخالفة ، التى ما زلنا نعاني آثارها إلى اليوم .

أفتقد صداقتك الآن يا أمي .. كما أفتقد نهر عطاءك الذى لم ينفد أبداً ..

لا زلت أذكر لك يا أمي مواقفك بالآلاف أو الملايين التى أغدقتها علي ، ومنها سهرك طوال الليل وأنت تخبزين لي ولزملائى بالجيش ، وتطهين طعاماً يكفينا لأيام ، وأنت المجهدة المتعبة من الخدمة لأبى وأخواتي طوال النهار لتواصلى ليلك ونهارك لإسعادي .

أنت أمامي يا أمي وأنت تحكين لنا بفعلك كيف يكون الكرم ، وحين أسألك عن سبب عطاءك وصدقاتك وكرمك مع الجميع ، فتحكين لي عن جدى وكيف كان لا يأكل من مائدة طعامه حتى يأكل أصحاب الصدقات الذين يقفون بباب البيت ، وحتى يشبعوا ، وتقولين لنا أن ما تفعلينه تعلمتيه من أبيك ، وأنه لا يساوى شيئاً مما كان أبوك يفعله ..

رحمك الله يا أمي وعلمنا من كرمك وعطاءك ..

 

سلامة الصدر .. سماحة النفس .. طيب الكلام

لم أر أمي تغتاب أحداً يوماً ما ، وحين حدث بينها وبين زوجة عمي شيئاً مما يحدث بين نظائرهن - وأنا فى سن الطفولة - كانت أمي هى المبادرة بالصلح والذهاب لبيت زوجة عمي ، وحين اغتظت من ذلك الأمر - وأنا ذاهب معها لتصطلح على زوجة عمي - قلت لها : ولم لا تأتي هى إليك ؟ أجابتنى بأن المسامح كريم ، وأن الإنسان الكويس هو من يعفو ويسامح ويكظم غيظه ولا يحمل فى صدره شيئاً لأحد ..

هكذا عاشت أمي طوال عمرها ، وعلمتنا من خلقها ألا ننطق إلا بالطيب ، حتى عندما كبرت وتعرضت لمواقف كنت أملك فيها أن أنتصف لنفسي ، أفاجئ بى رغماً عنى أني أعطى من أمامي اللسان الحسن ، وليس ذلك فضلاً منى .. وإنما الفضل بعد الله لأمي التى ما نطقت إلا بالحسن ، وما سمعت آذاننا منها إلا الطيب من القول .

حتى وهى مريضة ، وحتى وهى فى أشد اللحظات ألماً ، كنت أقول لها مش عاوزة حاجة منى يا أمي ، فكانت تقول وهى فى قمة الألم : عاوزة سلامة عيونك ..

يا سلام يا أمي .. أفتقد هذا اللسان العذب ، والنفس الطيبة الكريمة المسامحة ..

رحمك الله يا أمي ، وأنا أشهد الله أنى ما علمت لك إلا طيباً من القول ، وسماحة من النفس ، وسلامة صدر لكل العالمين ...

 

صوامة .. قوامة ..

أكملت أمي دينها بعبادات حسنة وخلق حسن ، فكما كان خلقها ، فلقد كانت عبادتها ..

كانت تنام بعد العشاء مباشرة دون أن تعبأ بتلفاز ولا أفلام ولا مسلسلات ولا غيرها من دواعي السهر ، لتستيقظ قبل الفجر بكثير لتتوضأ وتصلي ما شاء الله لها أن تصلي ثم تصلي الفجر وتجلس تقرأ القرآن والأذكار إلى الشروق فتصلي الضحي ثم تقوم لتستأنف حياتها وخدمتها لزوجها وأبنائها ..

وهكذا عاشت لا هم لها إلا هذه العبادات وهذه الخدمة وهذا الخلق الحسن ..

وقبل أن تدخل فى غيبوبتها التى لم تطول كان آخر ما نطقت به فى الدنيا لا إله إلا الله ..

فرحم الله أمي ، وجزاها بقيامها وصيامها وصلواتها خير الجزاء .

 

ابتلاء المرض ..

وكأن الله - سبحانه - يريد أن ينقيها تمام النقاء قبل أن تلقاه ، لتقع وهى عائدة من الوضوء لصلاة الظهر ، فيكسر مفصلها ، ونجري لها جراحة استبدال لهذا المفصل ، لتصاب بجلطة فى نصفها الآخر بعد أقل من شهر من الجراحة لترقد طيلة خمسة سنوات متتالية لا تتحرك أبداً ، ونتناوب جميعاً على خدمتها بحب ودون ضجر ..

وكان لأخى الأكبر النصيب الوافر من الخدمة والبر والرعاية ، ولن يدانيه أحد أبداً فى خدمته لأبويه كما خدم ، وهى صابرة شاكرة ..

خمسة سنوات من الألم الذى تضاعف يوماً بعد يوم حتى بلغ ذروته فى آخر أيامها ، وهى صابرة محتسبة لا نسمع منها شكوى ، ولا نسمع منها إلا الطيب من القول ..

ثم تغيب فجأة فى يوم وليلة بعد أن تكيفنا وتكيفت وصمدت مع هذا الرقاد الطويل ، لتدخل العناية المركزة ، ولا تمكث فيها سوى نصف يوم .

ولأن البقاء معها بالعناية ممنوع فقد عدت إلى بيتي ، وليلتها لم أستطع النوم وكنت قلقاً ، غبت لدقائق فى النوم لأستيقظ لصلاة الفجر ولم أستطع النوم ثانية ، وحين هممت بالقيام لأذهب لها بالمستشفى فى الصباح الباكر ، قالت لى زوجتي إلى أين ؟ فقلت إلى أمي ، أنا مش قادر أنام .

وما أن قدت السيارة حتى وجدت أخي يهاتفنى : إنت صحيت ؟ فقلت : نعم ، فقال لي طيب يللا تعالى البقاء لله ...

سمعت هذه الكلمات الثقيلة على أذني وتعاملت معها على أني آلة ، أغلقت الهاتف واسترجعت مصداقاً للسنة ، اتصلت بإخواني وأقاربى فى البلدة ورتبت كل إجراءات الجنازة مع من حضر من إخوانى وأحبابى وكل ذلك وأنا جامد المشاعر ، لم أبك إلا حين ذهبت إليها فى العناية لأول وهلة وأنا أقبلها وأعلم أنها آخر مرة ألمس بشرتها ..

ثم جمدت وأكملت تحرك الآلة ، ولم تنتابنى العاطفة إلا بعد أن صليت عليها وإخواني يعتنقوننى ، حينها بدأت البكاء ، الذى لا يريد أن ينقطع ، فالمصاب فيك يا أمي عظيم ..

رحمك الله وجعل ما أصابك من مرض فى ميزانك ، وجعله كفارة للسيئات ، ورفعة لدرجاتك ..

 

نصيحة ..

يا من له أب أو أم ، رغم أنف من أدركهما أحدهما أو كليهما ولم يدخلاه الجنة ، أنت معك كنز عظيم كبير ، عليك أن ترعه حق الرعاية ..

واحذر أن يفلت الكنز من بين يديك دون أن تغتنمه ، ودون أن تغدق عليهما برك وعطفك ، فيوشك أن يزولا من بين يديك ، فاحفظ النعمة وارعها ..

اللهم ارحم أمي وأبى ، وارحم كل أموات المسلمين ، وارحم كل من شهد لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة ومات على ذلك ، وألحقنا بهم على خير وأحسن خاتمتنا أجمعين .. اللهم آمين ..

-----------

[email protected]