د/ خيري عمر :
 
تثير حالة التوتر التي تشهدها القاهرة منذ منتصف ديسمبر، التساؤل عن مستقبل الديمقراطية والتحول السياسي فترة ما بعد الثورة، إذ إن اشتعال الأزمات أثناء مسيرة تكوين وبناء مؤسسات الدولة، يعني أن ثمة أوضاعا لم تأخذ حقها من النقاش السياسي، وأنه ما زالت المسافات متباعدة بين الأطراف السياسية، وتكشف أن التنوع الأيديولوجي لا يشكل ميزة للوضع السياسي، بقدر ما يساعد في تسارع إنتاج الأزمات العميقة التي تعيد النقاش حول مسارات التحول السياسي.
  

ثلاثة مداخل

 

وخلال مسيرة الثورة تناولت الأطراف المختلفة، بما فيها المجلس العسكري والأحزاب وكيانات المجتمع المدني، القضايا الكبرى كالدستور وهوية الدولة والتوجهات الاقتصادية والاجتماعية من ثلاثة مداخل وهي:
·        تأجيل حسم الخيارات الكبرى، حتى يتم الكشف عن توجهات الإرادة الشعبية عن طريق انتخابات حرة، تنقل بعدها السلطة كاملة للمؤسسات الجديدة، وفي هذا السياق لقيت محاولات المجلس العسكري ومكونات التيار الليبرالي لوضع مبادئ عامة للدستور رفضاً قاطعاً من التيارات الإسلامية، باعتبارها تشكل قيداً على الإرادة الشعبية، وقد أدت معارضة الإسلاميين وجانب من التيارات الليبرالية والاشتراكية إلى وقف مسار المبادئ الحاكمة.
 
·        أما المدخل الثاني، فقد تبنى وضع ملامح الدولة من خلال التوافق على القواعد العامة للنظام السياسي وتضمينها في مشروع الدستور، وبغض النظر عن الحجج السياسية والقانونية التي ساقتها غالبية التيارين الليبرالي والاشتراكي (العلماني) والذي تبلور في تحالف "الكتلة المصرية" و"الثورة مستمرة"، يتضح أنه يسعى لوضع تصورات وصيغة دائمة للدولة وعلاقتها بالمواطنين والدين وتحييد أثر تغير وتحول توجهات الناخبين عبر الانتخابات الدورية.
 
·        فيما يشكل المدخل الثالث عنصر الاستمرار بين النظام السابق والنظام الجديد، حيث تميل خيارات غالبية مؤسسات الدولة للاحتفاظ بمكانتها السياسية وقدراتها الاقتصادية، وفي هذا السياق برزت، خلال فترة ما بعد الثورة، مطالب لتقنين مزايا للجيش في الدستور، وذلك باعتبار المؤسسة العسكرية ظلت طرفاً مهماً في تكوين الدولة المصرية خلال القرنين الماضيين، وأنها تدرك التحديات التي تواجه الدولة في الداخل والخارج.
 

ثلاثة أطراف

 

وقد شكلت هذه المداخل معالم المشهد السياسي الراهن، حيث تتبلور ثلاثة أطراف رئيسية، سوف تؤدي التفاعلات فيما بينها إلى صياغة المستقبل السياسي للدولة وعلاقاتها السياسية والاجتماعية في الداخل والخارج، فقد ترتب على الممارسات التي حدثت منذ فبراير الماضي تبلور الكيانات الليبرالية والاشتراكية المعارض للتوجهات الإسلامية، وجماعة الإخوان، والمجلس العسكري كطرف يعبر عن مصالح غالبية مؤسسات الدولة.
 
ومنذ استفتاء 19 مارس أخذت الكيانات الليبرالية والاشتراكية في وضع ملامح توجهاتها السياسية إزاء تكوين النظام السياسي، حيث ركزت على ضرورة صياغة الدستور عبر لجنة تأسيسية تتكون بالانتخاب المباشر أو تقدير حصة لكل تيار سياسي، وبعد نتائج الاستفتاء التي أكدت على تكوين مؤسسات الدولة واللجنة التأسيسية بالانتخاب العام المباشر، اتسع الخلاف السياسي وتباعدت المواقف، حيث اعتبروا الإخوان والتيارات الإسلامية يشكلون خطراً على مصالحهم الاقتصادية ويهمش دورهم السياسي، وقد انعكس هذا التوجه في تنظيم حملة إعلامية وسياسية ضد المجلس العسكري والإخوان والحركات الإسلامية بشكل عام، وركزت الحملة على إضعاف شرعية المجلس العسكري ومطالبته بتسليم السلطة لحكومة إنقاذ وطني.
 
وبمرور الوقت، تزايدت حدة الحملة بحيث صارت تشكل عائقاً أمام استمرار الترتيبات الانتقالية وفقاً للإعلان الدستوري، ولم تقتصر الحملة على بث ونشر الدعايات المضادة للإخوان والمجلس، ولكنها دعمت خيارات المعارضة العنيفة ضد السلطة وتعطيل أعمال الحكومة، وقد تجلى ذلك في دعم اعتصام يوليو والذي استمر ثلاثة أسابيع واعتصام مجلس الوزراء، وكان من الملاحظ أن فترة ما بعد تعليق الاعتصامات أو فضها شهدت عنفاً شديداً، اتجهت حملة الليبراليين وبعض الحركات الإسلامية لتحميل مسؤولية ذلك للجيش وقوات الأمن، باعتباره اعتداءً على الثوار أو المواطنين، وذلك رغم أن المعلومات والمشاهدات تشير إلى تنامي فئة بين المعتصمين ترغب في زيادة الاحتقان بالتحفز على الجيش ومهاجمته ومنع أي وساطة للتهدئة، وهذا السلوك يعد متطوراً على أحداث "شارع محمد محمود" نهاية نوفمبر، حيث يشير لوجود توجه لتعميق الأزمة السياسية، وخاصة مع التهديد باقتحام المؤسسات السيادية ( مجلس الشعب ومجلس الوزراء وإحراق المجمع العلمي).
 
وبينما اتجهت التيارات العلمانية إلى المضي في تغيير المسار السياسي بعيدا عن الانتخابات، فإن جماعة الإخوان ظلت تواجه مغالاة الليبراليين في تقويض المسار الانتخابي، كما واجهت مساعي المجلس العسكري للهيمنة على النظام السياسي، وتصدت لوثيقة المبادئ الدستورية كما انسحبت من المجلس الاستشاري باعتباره امتداداً لوثيقة المبادئ.
 
وإذا ما كانت جماعة الإخوان اتخذت موقفاً مستقلاً يتوافق مع الإعلان الدستوري، إلا أن هذه المواقف وضعت الإخوان في مواجهة كل من التيارات العلمانية والمجلس العسكري، وهي حالة تزيد من التباعد السياسي، خاصة مع تحميل الجيش المسؤولية عن العنف ضد معتصمي مجلس الوزراء دون الإشارة لاستفزازات المعتصمين وجموحهم نحو إثارة القلق والتوتر، ورغم الإشارة في بيان لاحق إلى حق الاعتصام ولكن من دون تعطيل مؤسسات الدولة وضرورة الكشف عن المتورطين في الأحداث، فإن هذا الموقف يميل إلى الحذر ولا يعكس تحولاً في النظر للمخاطر المترتبة على انهيار الوضع الأمني في العاصمة وتفاقم الصراع السياسي.

إدارة المجلس العسكري


ولعل الجانب الأكثر أهمية في المعادلة السياسية، هو ما يتعلق بإدارة المجلس العسكري للفترة الانتقالية، وكان من الملاحظ أن الاتجاه العام لسياسة المجلس تتمثل في الحفاظ على الدور السياسي للجيش، سواء عبر تفاهم سياسي مع القوى السياسية أو من خلال وضع دستوري يمكن الجيش من السيطرة على مقدراته الاقتصادية والسياسية.
 
وقد واجه المطالب باستبعاده من الحياة السياسية بطرح بعض المشروعات والأفكار التي تؤكد الدور السياسي للجيش، غير أن تلك المقترحات لقيت معارضة شديدة من جانب الليبراليين والإخوان وبعض ذوي التوجهات السلفية، وكانت المعارضة لأسباب مختلفة، فبينما يرى الليبراليون أن إزاحة المجلس العسكري والجيش هي لوقف المسار الانتخابي لصالح حكومة إنقاذ ذات توجه ليبرالي تدير فترة انتقالية جديدة لا تشترط خروج الجيش من الشأن السياسي، فيما يري الإسلاميون أن المسار السياسي بعد الثورة لابد أن يؤدي إلى سلطة مدنية كاملة الصلاحيات.
 
وبغض النظر عن محتوى الخلاف بين التيارين، فإن النتائج سوف تؤدي إلى تراجع مكانة الجيش، وخاصة في ظل استمرار المستويات القيادية، سواء في الجيش أو الأجهزة الأمنية، بشكل يفرض قيوداً على أداء المجلس العسكري في معالجة المشكلات السياسية، ولذلك يمكن القول إن اتجاه المجلس لمقاومة محاولات استبعاد الجيش هي في مجملها تعبير عن الدور التاريخي للمؤسسة العسكرية في كيان الدولة، بقدر ما هي تعبير عن تطلعات شخصية، ومن هذه الوجهة، تبدو ثمة قراءة لدى المؤسسة العسكرية، تذهب إلى أن الصراع السياسي بين الإسلاميين والعلمانيين وتزايد احتمالات الاستقطاب، تعكس جانباً من غياب ثقته في الأحزاب السياسية التي ما زالت بعيدة عن قلب الدولة.
 
وإذا ما أخذنا في الاعتبار طول فترة الأزمة بين الجيش والمعتصمين وفقدان السيطرة على الأحداث، نكون أمام وضع سياسي لا يختلف في محتواه عن الجدل بشأن أولوية الدستور أو الانتخابات، وبهذا المعنى، يساهم اشتعال المشكلات بين الجيش والمحتجين في إضعاف أهمية نتائج الانتخابات وحجيتها كحل أخير لنقل السلطة، فقد صار جوهر الأزمة يتمثل في التفاهم حول دور الأطراف الثلاثة داخل الدولة، بغض النظر عن نتائج الانتخابات، فإذا كانت الانتخابات تشكل المصدر الرئيسي للشرعية السياسية، فإن استكمال الشرعية يكون بالاعتماد على قدرات الدولة وإمكاناتها، ومن هنا تبدو أهمية الاعتماد المتبادل بين نتائج الانتخابات وبين أجهزة الدولة.
 
وفي ظل تعقد الأوضاع السياسية والإدارية في الدولة وضعف مناعتها ضد التدخل الخارجي سواء عبر التمويل أو الضغوط المباشرة، بالإضافة لتزايد حدة الاستقطاب الأيديولوجي، تكون الدولة بصدد دخول فترة انتقالية محفوفة بالمخاطر والأزمات، مما يصعب من حسم التوجهات العامة والانتهاء من صياغة الدستور، وخاصة في ظل تنامي انخفاض الثقة في نتائج الانتخابات وكثرة الطعون بشأنها.
 
لا تقتصر مخاطر الفترة الانتقالية على التدخلات الخارجية، بقدر ما أن تصنيف الدولة يتحول ليصبح في  إطار الدولة الضعيفة ذات النظام السياسي التي تعاني من الانقسام والصراع، وهو ما يؤدي إلى وجود حزمة متباينة من المسارات السياسية والتي تتضمن حدوث تقلبات عنيفة تظل تشكل تهديداً للتحول السياسي.