د ممدوح المنير
في أيام الإحتلال الفرنسى لمصر دعا الفرنسيون عدد كبير من العلماء و المشايخ لزيارة المجمع العلمي الذي أنشأوه حينها في القاهرة , ثم قاموا أمامهم ببعض التجارب الكميائية و الطبيعية ليبهروهم بتفوقهم العلمي .
و وصف الجبرتي هذه الزيارة فى تاريخه قائلا :
(( من أغرب ما رأيت في ذلك المكان أن بعض الموجودين أخذ زجاجة فيها ماء و صب منها قليلاً في كأس ثم صب عليه ماء من زجاجة أخرى فغلى ما في الكأس و تصاعد من دخان ملون حتى انقطع و جف ما في الكأس و صار حجراً أصفر قلبه أمامنا و أخذناه بأيدينا و نظرناه , ثم فعل ذلك بمياه أخرى فجمد حجراً أزرق , و بأخرى فجمد حجراً أحمراً ياقوتياً , و أخذ مرة قليلاً من غبار أبيض و وضعه على السندان و ضربه بلمطرقة بلطف فخرج له صوت هائل كصوت البندقية انزعجنا منه فضحكوا منا , ..... ،و لهم في هذا أمور و أحوال و تراكيب غريبة لا تسعها عقول أمثالنا ))
هذا هو المجمع الذى أحترق عن آخره منذ أيام قليلة و أمام شاشات التلفزة فى مشهد مقصود معد بدقة حتى يشعر الناس بكثير من الكراهية و الضيق و التبرم من أى فعل ثورى سواء كان إعتصام أو تظاهر .
فى هذا المقال نحاول أن نبحث و نحلل العلاقة بين مشهد الجبرتى الذى أراد به الفرنسيون إشعار المصريين بالعجز و الضعف أمام تفوقهم العلمى مما يجعل عملية الإحتلال أكثر سهولة ، و بين حرق المجمع العلمى الذى أراد به فاعلوه أن يكفروا الناس بالثورة و الثوّار .
الرابط بين المشهدين هنا هو إستخدام الحرب النفسية كوسيلة فعالة لإخضاع الشعب المصرى و تدجينه ، و إدخاله مرة أخرى إلى بيت الطاعة ، حتى يسهل إقتياده من جديد ، لذلك ليس بمستغرب أن يصرح تشرتشل الزعيم البريطاني بقوله "...كثيرا ما غيرت الحرب النفسية وجه التاريخ ...".
فلقد كشفت أحداث مجلس الوزراء الأخيرة عن وجود مؤمرات و مخططات تهدف إلى زعزعة الإستقرار و إدخال الوطن إلى مرحلة الفوضى الشاملة لتحقيق أهداف فئة قوية و مسيطرة اعتبرت نجاح الثورة المصرية هزيمة لها و سحب من رصيدها و تهديد مباشر لوجودها .
قد يذهب البعض إلى إتهام المجلس العسكرى بالمسئولية المباشرة عن هذه الأحداث ، و هو الرأى الذى أقتنع به أيضا لأسباب كثيرة بعضها ذكرته فى تحليل سابق عن أحداث شارع محمد محمود و ميدان التحرير ، و قلت فيما قلت أن الهدف هو رفع تكلفة الإعتصام و التظاهر من خلال إراقة الكثير من الدماء بين قتيل و جريح و حرق المؤسسات ، مما يجعل المواطنين يفكرون أكثر من مرة قبل النزول مرة أخرى للتظاهر أو الإعتصام .
و يبدو أن هذه السياسة قد بدأت تؤتى أكلها نوعا ما فلم تكن ردة الفعلية الشعبية الحالية بنفس مستوى ردة الفعل التى أعقبت أحداث شارع محمد محمود .
لذلك ليس مستغربا أن تكون مشاهد القتل و السحل و سفك الدماء قد تم بثها على الهواء مباشرة ، بل أن المجمع العلمى قد ترك يحترق أمام عدسات التلفزة ، بعد أن تم تسليط الضوء على أنه قد يكون هدفا لمشعلى الحرائق ، و رغم ذلك ترك يحترق فى بث مباشر لإحداث التأثير النفسى المطلوب على المواطنين .
هذه الحرب القذرة التى يراد بها إستجداء عواطف الناس ، أو كما يقول الكاتب الفرنسي غوستاف لوبون "... إن ما يحرك الجماهير هو ردود الفعل العاطفية ..." .
و الحرب النفسية الحالية تهدف إلى تحقيق عدة أهداف اساسية منها :
أولا : بث الخوف و الرعب فى نفوس المواطنين ( مشاهد الضرب و السحل و القتل تهدف إلى ذلك ) .
ثانيا : بث الكراهية و السخط على كافة أشكال الفعل الثورى ( حريق المجمع العلمى أريد به ذلك ) .
ثالثا : إصابة المواطنين بحالة من البلبلة و الإرتباك تضيع معه البوصلة التى يهتدى بها الوطن .
رابعا : صرف الناس عن الإنتخابات و ما يحدث بها من تجاوزات مرصودة أو حتى إعاقة إنعقاد مجلس الشعب .
كما تعتبر الشائعات هى الأخرى من أهم وسائل الحرب النفسية و التى بطبيعتها تعتمد في إنتشارها على عملية الإيحاء النفسي الذي يكسر مقاومة متقبل الشائعة و خاصة أن الِشائعة تأتيه عادة على لسان أحد يثق فى كلامه من أصدقاءه أو معارفه عموما .
و فى أجواء الفوضى و الأزمات التى نعيشها الآن فى مصر تنتشر الشائعات حيث يختل الإتزان الإنفعالي للأفراد مع تسارع الأحداث , مما يدفعهم الى عدم التميز بين ما يتردد فى وسائل الإعلام المختلفة ،خاصة أن هناك قنوات فضائية و صحف سيارة تعمد فى نشر الشائعات على ما يمكن أن يطلق عليه إيحاء الأغلبية , فكل فرد يميل الى تصديق ما تجمع عليه معظم أو غالبية أفراد مجتمعه حيث أن إنتشار الشائعة بين عدد كبير من الأفراد يقدم لها الدعم الكافى و يزيد من قابلية إنتشارها بدرجة كبيرة .
أدرك جيدا أن هناك أفعال يندى لها الجبين من بعض من يطلق عليهم ثوّار و الثورة بريئة منهم ، و أن هذه الأفعال تستخدم بذكاء من قبل مشعلى الفتن و الحرائق فى مصر ، لكن أدرك جيدا أن حجم هؤلاء من الضعف بحيث لا يمكن أن يتسببوا فيما يحدث ، قد يكونوا هم الشرارة ، و لكنهم ليسوا بكل تأكيد البنزين الذى سكب عن عمد لإشعال الفتن فى مصر كلها .
أدرك كذلك أن المجلس العسكرى ليس المسئول الوحيد عن ما ما يحدث و إن كان يتحمل المسئولية كاملة بحكم إدارته لشئون البلاد .
و أعلم يقينا أن وراء الفتن التى تحدث فى مصر أصابع خارجية ممن لا تحب لمصر إستقرارا أو نهضة مع أصابع داخلية من الفلول و بعض الأجهزة الأمنية مهمتها أن تشعل الفتيل أو تسكب عليه البنزين إذا كان مشتعلا ، لكن من يحاول ان يوهمنا بأنه لا أحد يعلم حقيقة ما يحدث ، فهذا نوع من الإستخفاف بالشعب الذى يذكرنا بعهد البائد مبارك الذى كان يزور الإنتخابات عيانا جهارا ثم يخرج علينا بطلعته البهية يحدثنا عن نزاهة الإنتخابات !! .
فمن المعروف أن فى مصر أكثر من عشرة أجهزة أمنية حساسة و قوية ، و تقريبا كانت هذه الأجهزة الأمنية فى عهد المخلوع هى أكثر مؤسسات الدولة التى تحظى بإهتمام و رعاية ، أمن المعقول إذا أن تكون لا علم لها بالمتسبب فى حوادث القتل و الحرق والفوضى التى تبث على الهواء مباشرة على عشرات القنوات و أمام أهم مؤسسات الدولة على الإطلاق التى تحظى بإحتياطات أمنية غير طبيعية ؟!!! .
أليس هذا هو الإستخفاف بعينه بعقول الناس و الذى يصل إلى حد إحتقارهم و الإستهزاء بهم ؟! .
و إن إفترضنا فى أنفسنا البلاهة مع الإعتذار لكل قارىء ، و صدقنا أن هذه الأجهزة الأمنية لا تعلم شيئا عن الفاعل الحقيقى ، أليس من أبجديات العمل السياسى فى الدول المحترمة و شبه المحترمة أن يقدم هؤلاء إستقالتهم فورا نظرا لفشلهم الذريع فى الكشف عن المجرم فى حادث يبث على الهواء مباشرة ؟!! .
كيف نطمئن إذا على أمن مصر الداخلى أو الخارجى إذا كان المجلس العسكرى لا يعلم شيئا و لا الأجهزة الأمنية لا تعلم شيئا عما يدور تحت عينها ؟!! .
لا أدرى لماذا تذكرت معركة (( بلاط الشهداء)) , و قد دارت هذه المعركة في جنوب غربي فرنسا بين المسلمين والفرنسيين .
و قد هزم المسلمون فيها على إثر إشاعة تم نشرها بينهم تقول أن بعض الفرنسيين قد تسللوا الى مؤخرتهم وأخذوا ينهبون خيامهم و يعتدون على من فيها من النساء , فكان أن ترك الفرسان المسلمين الميدان ليحموا خيامهم ونساءهم , وظن بقية الجيش أنه توجد رغبة في التقهقر فاقتدت بالفرسان , وبذلك خسروا المعركة بعد أن كانت لصالحهم في البداية ، إنها حرب نفسية قذرة إستخدمت فيها الأعراض و النساء لصرف الناس عن المعركة الأساسية حتى انهزم المسلمون، أترك لك عزيزى القارىء إسقاط القصة التاريخية على ما يحدث من حولك لتفهم أن الشياطين كلهم ملة واحدة !! .
ــــــــــــ
رئيس الأكاديمية الدولية للدراسات و التنمية

