د/ عصام العريان :

الشهور الستة القادمة هي أصعب الشهور في تاريخ مصر.

مصر الآن في عنق الزجاجة وتحتاج إلى رؤية ثاقبة للمرور الآمن

الإخلاص وحده لا يكفي في هذه الظروف العصيبة.

النقاء وحده لا يكفي لامتلاك الرؤية السليمة.

لابد من امتزاج العقل بالعاطفة، والخيال بالواقع كي تمتلك القرار الصحيح.

لقد أثمرت الثورة المصرية العظيمة حتى الآن ثمرة حان قطافها، وعلينا أن نشترك جميعا كمصريين في امتلاكها وقطفها عندما تصبح يانعة قريبة المنال.

إن الذين يجادلون في نتائج الثورة، ويشككون في ثمراتها، ويزرعون اليأس في قلوب المصريين لم يفلحوا ولن يفلحوا.

لقد كانت ثورة شعب بأكمله ولم تكن مجرد ثورة شباب أطلق شرارة البداية.

لقد كانت ثورة ملايين شاركوا لأيام عديدة متواصلة، واستمروا لشهور متواصلة، ولم تكن مجرد صيحات على "الفيس بوك" ولا "التويتر" ولا حوارات في الاعلام والفضائيات.

هذه الملايين هي التي صممت على الخروج رغم كل التخويف والارهاب الإعلامي الذي مارسته النخبة أيام الاستفتاء ثم أربع جولات من التصويت، ولا تزال على إرادتها الصلبة في الاستمرار إلى نهاية شوط الانتخابات في المرحلة الثالثة بجولتيها ليصل عدد المصريين المشاركين في أول ممارسة ديمقراطية حقيقية إلى قرابة الثلاثين مليوناً من المصريين والمصريات، في القرى والنجوع كما في المدن والعواصم، على مساحة القطر المصري كله بكل تنوعهم واختلافاتهم في الثقافة والتوجه والتعليم والعمل. هذا الشعب بملايينه هو صمام الأمان للخروج من عنق الزجاجة إلى بر الأمان.

هذه الارادة الشعبية الصلبة هي التي تحطمت وتتحطم عليها كل المؤامرات القذرة التي أسالت دماء الأطهار والشهداء خلال الشهور الأخيرة في أحداث السفارة وماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الشعب.

هذه الإرادة التي واجهت محاولات زرع الفتن بين صفوف المصريين لتمزيق الصف الوطني على خلفية دينية أو اختلاف فقهي أو رؤية سياسية بين مسلمين ومسيحيين أو اخوان وسلفيين أو إسلاميين وعلمانيين وليبراليين. لقد توجهت تلك الارادة الشعبية إلى اختيار برلمان مصري بحرية كاملة لأول مرة في تاريخ البلاد بهذه الكثافة التصويتية ودون أية اتهامات بتزوير الانتخابات كما كان يتردد منذ حوالي مائة عام.

هذا البرلمان المنتخب والذي سيكتمل عقده وينعقد في أول اجتماع له في 23 يناير 2012 هو بداية الخروج من عنق الزجاجة.

ثم يختار البرلمان عقب الانتهاء من انتخابات مجلس الشورى الجمعية التأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد يحقق لنا عبوراً آخر إلى نظام دستوري جديد. والدستور الجديد ليس وليد الأغلبية البرلمانية، بل هو وليد التوافق الوطني العام دون نظر إلى أغلبية وأقلية.

الدستور الجديد يعبّر عن إرادة شعبية ظهرت في الاستفتاء والانتخابات البرلمانية.

لا يوجد خلاف حقيقي حول هوية الدولة المصرية ولا انتماء شعبها إلى الأمة العربية ولا مرجعيتها التشريعية والحضارية في المبادئ العامة للشريعة الاسلامية.

ولا يوجد جدل حول المقومات الأساسية للمجتمع المصري ودور الدين والأسرة والأخلاق والوطنية كمكونات أساسية للإنسان المصري.

ولا يوجد خلاف ما حول حماية الحريات العامة والحريات الشخصية لكل مصري ومصرية، وأن الأخلاق لا يتم فرضها بقانون، وإن الحرية الشخصية لأي مصري تقف عند حدود حرية الآخرين، وأن كل حق شخصي يقابله واجب عام، فلا حقوق مطلقة، ولا حقوق دون واجبات.

المهمة الرئيسية فيما يتعلق بالدستور هي في مكونات "الباب الخامس" الذي يتعلق بنظام الدولة وصلاحيات الرئيس المنتخب وحكومة تحت رقابة البرلمان.

المهمة الأخرى هي كيف يمكن الانتقال بمصر من نظام حكم شديد المركزية كان يقلص السلطات والصلاحيات كلها في يد شخص واحد، وكان يجعل القرار دوما في العاصمة القاهرة، إلى نظام حكم لا مركزي يمهد الطريق إلى حكم محلي يجعل كل مصري ومصرية يمتلك جزءاً من القرار وهو في أقصى البلاد لأنه دفع من حياته وحريته ثمناً لحرية مصر وحياتها الكريمة ؟

القرار الأصعب القادم هو كيف نجعل جهاز الشرطة يعمل بكفاءة وحيادية في ظل نظام ديمقراطي سليم يتيح تداول السلطة بين الأحزاب السياسية ؟

وقد يكون أصعب منه الدور المرتقب للجيش المصري، حامي الديار، في ظل ديمقراطية مكتملة الأركان، ونحن والعرب جميعا في حاجة الى جيش وطني قوي قادر على الردع والحماية، مجهز بأحدث الأسلحة والتقنيات، مدّرب على الدوام ليكون على أتم استعداد لمواجهة المفاجآت، ولكنه في نفس الوقت لا يشكل دولة داخل الدولة، ولا مؤسسة فوق المؤسسات، له خصوصيته ويخضع للرقابة الشعبية في البرلمان، له تشريعاته التي تحقق له التماسك والقدرة على ضبط أفراده ووحدة صفه، ومع ذلك يتم التشاور مع ممثلي الشعب في تلك التشريعات.

ثم يأتي بعد ذلك تمام العبور إلى نظام مكتمل الأركان وهو انتخاب رئيس جمهورية مدني بإرادة شعبية حقيقية وفي ظل تنافس شريف لأول مرة في ظل الجمهورية الجديدة التي نعيد صياغتها الآن ووضع أسسها بواسطة الشعب نفسه لأول مرة في تاريخ مصر.

وبما أن الرئيس منتخب من الشعب مباشرة فلابد أن يتمتع بصلاحيات حقيقية وهذا يؤدي إلى أن الفترة القادمة سيكون نظام الحكم مختلطاً أي رئاسي برلماني مع توزيع الصلاحيات بين أطراف الحكم الثلاثة: الرئاسة والحكومة والبرلمان.

هل يتم العبور الآمن وفق هذه الخريطة التي ارتضاها الشعب وتوافقت عليها القوى السياسية ؟

لا شك أن هذا هو بداية الطريق، ولكن يبقى الأهم والأصعب في حياتنا كمصريين وهو أن نحقق أهداف الثورة في العيش الكريم، والأمن والأمان، والحرية الحقيقية، والعدالة الاجتماعية.

وهذا لن يتحقق إلا بتعاون الأطراف كلها، وفي مقدمتها الشعب نفسه لبناء مصر، وإعادة رسم سياستها الداخلية والخارجية وإعادة توزيع مواردها من أجل تنمية شاملة عمرانية وزراعية وانتاجية.

لنأكل من غرس أيدينا، ونلبس من صنع مصانع نسيجنا، ونتداوى من صنع مصانعنا، ونسد حاجتنا الأساسية في كل شئ من قدراتنا الذاتية حتى لا نلجأ إلى الاستدانة والقروض والمنح والهبات من جديد فنرهن قراراتنا لصالح غيرنا من القوى التي لا تريد لنا الاستقلال والحرية.

ستمر علينا بعد تلك الشهور الستة سنوات شاقة، تحتاج إلى تضافر كل العقول، وتساند كل السواعد، وتعاون كل الجهات من أجل بناء نهضة حقيقية في مصر الواعدة القادرة دوماً على تجاوز الصعاب.

على الجميع أن يتحمل مسئوليته، فقد قال الشعب كلمته وسيتمهما في الانتخابات، وعلينا أن نحترم اختياره الحر النزيه، وسيقول الشعب ممثلاً في الجمعية التأسيسية رأيه في نظام الحكم والدستور الجديد، وعلينا أن ننجزه في أقرب فرصة، وعلى الأقل فلنتوافق على شكل نظام الحكم حتى نختار رئيسا يعلم مدى صلاحياته ولا نختار فرعونا جديدا يستبد بالرأي، وسيختار الشعب رئيساً جديداً يعلم أنه أجير عند الشعب ووكيل يرعى مصالح الأمة، وجزء من نظام جديد لا ينفرد عن البرلمان ولا الحكومة بقرار.

وعلى القوى الثورية النقية، وعلى الأحزاب السياسية جميعا خاصة تلك التي تم تمثيلها في مجلسي الشعب والشورى، وعلى المنظمات المدنية والجمعيات الأهلية وعلى المؤسسة الاسلامية ممثلة في الأزهر الشريف وعلى الكنيسة المصرية ومعهم الشعب جميعا التحلي بأقصى درجات ضبط النفس وتحمل المسئولية لكي ننجز العبور الآمن من عنق الزجاجة إلى بر الأمان ونعمل معا جميعا لبناء نهضة مصر التي ستكون عنوانا لفجر جديد للأمة العربية والاسلامية إن شاء الله وبعونه تعالى.