حازم سعيد :
مظاهرات واعتصامات بالتحرير والعباسية ، وضرب وخبط ، وقتل ، ومعارك كر وفر بين إلقاء الطوب وبلطجية إلى رصاص قناصة وقنابل دخان ،  ومحاولة اقتحام مديريات الأمن بالمحافظات ، ومع كل ذلك مكلمة فضائية كبيرة جداً لم تستثن صغيراً ولا كبيراً ، كما لم تفلت اتجاهاً من الاتجاهات .
وأكثر من تعرض للنقد والتجريح من الاتجاهات – بعد العسكري طبعاً – هم الإخوان المسلمون ، وكأن هناك حالة تربص شديدة جداً بهم ، فمن قائل أنهم سبب التهييج والإثارة الموجودة الآن بالتحرير إلى مدعٍ صفقةً مع المجلس العسكري ، إلى متهم لهم باستعجال الحصاد وأنهم اختاروا – بعد تعب السنين – أن يقطفوا الثمرة التى حان أوانها بعد أن نضجت ، إلى ملصقٍ بهم تهمة خيانة الثورة !!!!!!!!!!!!
 
كل ذلك يقودنا إلى مجموعة من الملاحظات والوقفات :
أولاً : الرويبضة :
يذكرنى هذا الحال بما رواه الإمام أحمد فى مسنده عن أبى هريرة رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " قبل الساعة سنون خداعة يكذب فيها الصادق ويصدق فيها الكاذب ويخون فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن وينطق فيها الرويبضة " حسنه شعيب الأرناؤوط .
وذكره الألباني من رواية ابن ماجه والحاكم وأحمد بالسلسلة الصحيحة بلفظ : " سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب و يكذب فيها الصادق و يؤتمن فيها الخائن و يخون فيها الأمين و ينطق فيها الرويبضة . قيل : و ما الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة " .
وهذا هو الحادث هذه الأيام ، كل إنسان يقدم حلول ، وكل حل يتعارض مع أخيه ، وهم يخرجون الأمر بهذه الطريقة عن سياق الثورات ، فليس معنى أنك ثائر على أوضاع فاسدة ، محتج على حكم جائر أو انتهاك شرطة أو داخلية أنك تملك معالم الحلول .
صحيح أن لديك قدرة تمييز الحق من الخطأ فى مجال انتهاك الشرطة مثلاً ، وهو لا يحتاج لكثير تعب أو حتى قليل أن تدرك أن قتل الشرطة للمتظاهرين بهذه العدوانية والوحشية خطأ من الأخطاء ، ولكن أن يعنى هذا أن مفتاح الحلول معك وأنك ترفض أن تغادر الميدان إلى أن ينفذ مقترحك بالحل ، فهذا هو العجيب الغريب .
نعم لك أن تطالب المجلس العسكري بالاعتذار عن القتلى وتحويل الجناة إلى المحاكمة والمحاسبة ، ولكن أن يرتفع سقف اعتراضك لأن تضع حلولاً وهمية غير قابلة للتنفيذ ومختلف عليها وتفرضها على الناس – من نوعية مجلس إنقاذ مدني أو مختلط نصفه عسكري ونصفه مدنى أو ... أو ... الخ - وإلا فلن تغادر الميدان ، فهذا هو حال الرويبضة يتحدث فى أمر العامة .
ينطبق هذا سواءاً بسواء مع الموجدين فى التحرير ومع المتظاهرين أمام مديريات الأمن وكثير منهم فى مرحلة التعليم الثانوي ما زالوا يتحسسون طريقهم للحياة وللخبرة وللتفكير وللعلم وللدراية ، وكذلك ينطبق على الموجودين بمكلمة الفضائيات التى زادت عن عشرين فضائية تضع فى وقت واحد حلولاً وتفترض افتراضات ، والعجيب أن كثيراً منها حلول يستحيل تنفيذها لأنها لا يتفق عليها اثنان منهم .
 
ثانياً : التربص بالإخوان :
أعيتنى الردود – لا عن عجزٍ فكل التهم تافهة – لكن من كثرة التربص .
تماما كجحا وابنه مع الحمار ، فأياً كان موقف الإخوان – أياً كان – سوف ينتقدون ويشتمون ويتهمون ، إذا اتخذوا أقصى اليمين شتموا وانتقدوا واتهموا ، وإن راحوا للوسط شتموا وانتقدوا واتهموا ، وإن جنحوا للشمال جنح معهم الشتامون والمنتقدون والمتهمون .
والأعجب والأغرب والمضحك في نفس الوقت أن كثيراً من الشتامين والمنتقدين والمتهمين هم هم فى كل مرة أياً كان موقف الإخوان .
فأمثل حل وأحسنه مع هؤلاء هو أن نترك من يتكلم لكلامه ولقاءاته ، أما نحن فلنا طريقنا الواضحة معالمه المحددة خطواته الثابتة أهدافه لن نحيد عنها مهما فعلوا ، ولن تهزنا مكلمتهم ، فإن الله معنا ، ذلك أنا لم نسلك هذا الطريق ابتغاء مدحٍ أو اتقاء مذمةٍ من أحد ، إنما الله غايتنا ، فنعم بها من غاية .
ومن كان الله معه وغايته ، فمن يكون عليه ؟!
 
ثالثاً : أحادية النظرة :
يلفت نظري فى هذه الأحداث الغريبة أحادية النظرة عند كثيرٍ من الناس ، فبمجرد أن يتبنوا حلاً أو قراراً أو رأياً فى هذه الأمور التى تخضع للاجتهاد وليست من الثوابت يصر على إلزام الآخرين بها ، ومن يخرج عن هذا الإلزام يوجه إليه سيل الشتائم والتهم .
رأيت هذا الكلام فى عشرات بل مئات المواقف خلال الأيام الماضية ، وفى آلالف الخواطر والاستضافات والمداخلات والحوارات على الفضائيات .
ما الذى أوصل المصريين إلى هذه الحالة من التشنج ، ولماذا لم نتربى على ثقافة الرأي والرأي الآخر ، ولماذا لا نتحلى بما قاله أئمة السلف الصالح : " رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرى خطأ يحتمل الصواب " .
لماذا لا نتغافر ونتسامح فى الأمور الاجتهادية ويعذر بعضنا البعض ، دون أن نلجأ إلى الشتائم والسباب والاتهام .
نعم أفهم أن تتهمنى بقلة الخبرة أو قلة التجربة كما فعلت أنا فى البند أولاً من هذه المقالة ، أما أن نلجأ لسلاح التهم والتربص والشتيمة وإساءة الظن واتخاذ موقف عدواني بدون دليل ولا برهان ، فهذا يعكس ثقافة " أحادية الرأي " العجيبة التى تستغرق المصريين هذه الأيام .
وأكثر من يعاني من هذه الثقافة باللمز والغمز والانتقاص هم الإخوان الذين دائماً ما يلمزون وينتقصون دون مراعاة لحريتهم فى اتخاذ أرائهم ومواقفهم واجتهاداتهم ، فى حجر واضح على تصرفاتهم وقراراتهم .
 
رابعاً : موقف بعض متعجلي الإخوان :
وما يحزنني أن يوجد فى أبناء الصف الإخواني من يمارس هذه الثقافة الأحادية على الرغم من أن المدرسة التى يتبعونها وهي الإخوان تتميز ضمن أهم ما يميزها بالمرونة وسعة الصدر والقدرة على استيعاب جميع الأراء واحترام كل الاختيارات ما لم تتعارض مع ثوابت الدين والعقيدة فى ظل المبدأ الرائع : نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه .
ورغم هذا يتخذ بعض المتعجلين قراراً بنزول التحرير رغماً عن قياداتهم وعن رؤية الجماعة بعدم الخوض فى هذه الفتنة التي وصل للإخوان معلومات مؤكدة ومتيقنة بأن هناك من يهيج ويحاول استثمارها لإعادة البلد للنقطة صفر والدخول فى دوامة فوضى تجبر القائمين على الأمور بحالة الأحكام العرفية وإلغاء الممارسة الديمقراطية الحقيقية الثانية بعد الثورة وبعد استفتاء التعديلات الدستورية .
رغم كل هذا يصر بعض المتعجلين من الإخوان على المخالفة والنزول للتحرير وتكثير سواد الثائرين والغاضبين وزيادة نار الفتنة فى صورة من صور الممارسة البعيدة عن قواعد العمل الجماعى وعن أركان البيعة التى بايعنا الله تعالى – ثم قياداتنا فى الجماعة – على الالتزام بها والوفاء بمقتضياتها .
فأين هذا التعجل من ركن الفهم ( والذى يتبعه التحقق والتوثق قبل الإقدام مصداقاً لتفسيرات الإمام البنا لهذا الركن وشرحه له ومثله قول الإمام البخاري رحمه الله فى صحيحه : باب العلم قبل القول والعمل ) وكذلك أين هذا التعجل من أركان الثقة والطاعة والتجرد والأخوة ؟!
أنا هنا ألوم على المتعجلين مسألتين : الأولى : عدم الوفاء بأركان البيعة واتباع الرأي والاجتهاد الشخصي – ولو كان محقاً ومصيباً – والافتئات على مقتضيات العمل بالجماعة التى اخترت بحر إرادتى أن أسير تحت لوائها وألتزم بقرارات قيادتها .
والثانية هو انتقاد موقف القيادة بصورة تجريحية تهديدية تشنجية ، وهو ما يعكس ثقافة الرأي الأحادي التى غلبت على كثير من المصريين اليوم .
ولا يقال طبعاً لمن يفهم مقتضيات العمل الجماعى والانخراط فيه أن قرار الجماعة الذى أخذ بعد شورى فى مستوياتها الخاصة بها .. لا يقال أنه قرار أحادي .. وإلا فلماذا انضممت لجماعة تقوم – بداهة – على السمع والطاعة والجندية ؟!
 
خامساً : كيف يتخذ الإخوان قراراتهم :
هنا يلزم لتذكير إخواننا الذين خالفوا ، وكذلك لإعلام من يشتم الإخوان ويسبهم وينتقدهم أن نعرض كيفية اتخاذ الإخوان لقراراتهم ، ولست هنا أخوض فيها بالتفصيل وإنما أذكر بمعايير ضرورية دائماً – فيما أعلم وأرى – ما يتخذها الإخوان أسساً لاتخاذ القرار :
يأتي على رأسها مراعاة المصلحة العامة وكونها مقدمة على المصلحة الخاصة ، والمواقف التى تعكس هذا بوضوح كثيرة منها آخرها بعدم النزول للميدان وما قد يجره على الإخوان من فقد بعض الأصوات للثائرين والغاضبين ومن اتهام الجماعة بخيانة الثورة ، ولكن لأن هناك بعداً استراتيجياً واضحاً لدى الإخوان ، ولأنهم يفضلون الصالح العام على الخاص فقد انحازوا لقرار تفويت الفرصة على المتآمرين الذين أرادوا إدخال البلاد فى دائرة الفوضى ورفضوا النزول وزيادة عمق الأزمة ، ذلك لأنهم يتقون الله ويراعون الصالح العام على الخاص .
يأتى من ضمن الضوابط المهمة والمعايير هو إحالة الأمور لأهل التخصص ، فإذا كان الأمر يخص الأطباء والصحة أحالوا الأمر لأهله ، وإن كان ما يصدرون قراراً بشأنه هو من تخصص المهندسين أحالوه لهم ، وإن كان أمراً يخص الساسة جئ بأهل العلم والفن والخبرة من السياسيين وهكذا ، ولكن هل يلزم هذا أن قرارهم هو الصواب دائماً ، لا يشترط ، ولكن الذى يهم هو أنهم سعوا وكدوا ولم يألوا جهداً فى استشارة أهل الخبرة ، ومما يطمئن القلوب بصحة هذا الكلام النظر فى تركيبة مكتب الإرشاد الذى يجمع بين المتخصصين فى مجالات مختلفة بين الطب والهندسة وأساتذة الجامعة والعلماء الشرعيين ... الخ .
من المعايير المهمة هو أن الشورى ملزمة مع مراعاة مستويات الشورى ، وهنا يخطئ كثير من الناس حين يظن أنه بمجرد أخذ رأيه فى موضوع ما يصير كلامه ملزماً للجهة الأعلي ، وهذا خطأ ، فالشورى ملزمة على مستوياتها ، فإن كان القرار من اختصاصات مكتب الإرشاد ، فالاستشارات القبلية لمن هم دونه ليست ملزمة ، وإنما هى من باب التحرى والكد والاجتهاد فى المسألة حتى يحيطوا بالأمر من كل جوانبه ، ثم يتشاورون فيما بينهم كأعضاء لمكتب الإرشاد فيصدرون القرار الذى ينبغى أن يكون ملزماً لمن تحتهم حتى لو خالف رأي هذه المستويات التنظيمية الأقل .
يتبع ذلك كله أن تتوفر جسور الثقة بين القيادة والجنود – وهو ركن من أركان البيعة – بالإخوان ، وما يعنيه هذا كله من الطاعة فى المنشط والمكره ( وعلى أثرة علينا ) وعلى ألا ننازع الحق أهله .... إلى آخر ذلك من مقتضيات الثقة والطاعة .
 
سادساً وأخيراً : هل يعنى هذا النقد والسباب ممن ينقد ويسب أن الإخوان خسروا أصوات الشارع ، أحيلكم هنا على مقالة الأستاذ السروجى المنشورة بالموقع ، وأؤكدها أن رهان الإخوان ليس على هذه المكلمة الفضائية الإعلامية ، وإنما رهانهم على رجل الشارع والأغلبية التى شهدت الممارسات الإيمانية والفكرية والثقافية والخدمية والجهادية للإخوان على مدار عشرات السنين لتترك جسراً ضخماً من الثقة بين الإخوان وبين هؤلاء الجماهير الحاشدة ، وليتحول الأمر من " محدش فاهم حاجة " إلى " كثير من الناس فاهمين كل حاجة " ولله الحمد والمنة .
------------