م / محمد شكري علوان :
** عشر سنوات قضاها الرسول صلي الله علية وسلم بالمدينة المنورة بعد الهجرة الشريفة ، أنتجت جيلا فريدا في تمدنه ورقيه الأخلاقي والحضاري والعمراني ، دل علي ذلك ما قاموا به من أعمال مجيدة ، حررت الأمم وبثت القيم ، بحسن الدعوة وبليغ الحكمة ، بل يمكن القول وبصدق إن ما تنعم به الأمم اليوم من تقدم وازدهار يرجع في كثير منه إلي هذه الحضارة ، فعليها اعتمدت الأمم ومنها نهلت .
** إن من أهم ما رسخه الرسول صلي الله عليه وسلم في نفوس أصحابه بعد العقيدة السليمة ، وشمولية الإسلام لكل مظاهر الحياة وشئونها ، قضية التعاضد الاجتماعي القائم علي أسس تكافلية بين جميع أفراد المجتمع وكل مستوياتهم الاجتماعية ، مجتمع قائم علي المحبة والإيثار والتسامح والعدل ، مجتمع البنيان المرصوص كما ذكرت الأحاديث ، ولهذا أرخ المسلمون لتاريخهم وحضارتهم وحضورهم بالهجرة الشريفة رمز بناء الدولة والرقي والعمران والتقدم ، ومن هنا ( ونحن بعد ثورة مجيدة وأمام انتخابات تشريعية لتأسيس دولة رائدة ) وجب الوقوف المتأني أمام الهجرة النبوية الشريفة التي كانت أساس بناء هذا المجتمع الفريد والدولة المتميزة ، والتي نوجزها في أربع نقاط أساسية وهي : -
· مقدمات الهجرة النبوية الشريفة
· أسباب الهجرة النبوية الشريفة
· الأسس التي قامت عليها الهجرة النبوية الشريفة
· نتائج الهجرة النبوية الشريفة
** أولا :- مقدمات الهجرة
كثيرة هي مقدمات الهجرة ولكننا نقف عند أهم معلم من معالمها ، وهم هؤلاء النفر الذين اجتمع بهم الرسول في بيعة العقبة الثانية ، وقد سمت أرواحهم وتعالت نفوسهم علي المادة والارتباط بالأرض والعصبية ، وحطموا الأعراف الخاطئة وعصبيات الجاهلية وصارت نفوسهم لا ترجوا إلا رضا الله وخلاص البشرية مما فيها من بلاء وتخلف وانحطاط ، وقد وضعوا أنفسهم وأبناءهم وأموالهم فداء ً للدين والقيم، وكانت تلك اللحظة هي الفارقة في تاريخ البشرية الحديث ، ففتحوا قلوبهم وبلادهم للمهاجرين بدينهم ومبادئهم ( والذين تبوأو الدار والإيمان من قبلهم ، يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في نفوسهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) . فما أحوج مصرنا اليوم إلي أمثال هؤلاء .
** ثانيا :- أسباب الهجرة
** شدة الإيذاء والتعذيب : - لقد تم ممارسة أقصي أنواع التعذيب النفسي والبدني علي الصحابة وفي مقدمتهم الرسول صلي الله عليه وسلم ، من الإهانة والتجريح والسخرية والاستهزاء ، إلي الاتهام بالسحر والجنون ، ثم كان الإيذاء البدني الذي بلغ درجة القتل والنفي ، فضلا عن الحصار الاقتصادي والاستبعاد الاجتماعي ، وما كان إلا الصبر الجميل تعليما للأمة وللمصلحين في كل عصر ومصر ، بأن دائرة العنف والبغضاء لن تقف بالعنف والبغضاء ولكن بالصبر الجميل والحلم والرفق .
** الصدود الكامل عن الدعوة ومحاربتها وانغلاق العقول والقلوب بل والآذان أيضا ، وهذا ما سجله الكريم في قوله تعالي ( وهم ينهون عنه وينأون عنه )
** الإذن من الله تعالي لنبيه صلي الله عليه وسلم وأصحابه بالهجرة ، فما كانت الهجرة أبدا فرارا من الواقع ، ولا خوفا من المواجهة ولكنها بداية لبناء وعمران لأمة ومنهج ، وما كان لرسول الله صلي الله عليه وسلم أن يفعل دون إذن ربه وهو المعلم والقدوة فقد أوحي إليه ربه جل في علاه ( وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل من لدنك سلطانا نصيرا ، وقل جاء الحق وزهق الباطل غن الباطل كان زهوقا ) ، وعلي هذا النهج القويم يسير المصلحون والدعاة في حياتهم فهم يحترمون الشورى وينزلون علي رأيها ويقدمون المصلحة العامة للأمة علي مصالحهم الشخصية .
الأسس التي قامت عليها الهجرة :-
** التخطيط الجيد ، وكمال الأخذ بالأسباب ، وتوظيف كل الإمكانات المادية والبشرية ، كل فيما يجيد ويفيد ، من رجال ونساء ، وموالي و حتى غير المسلمين الأمناء ، فضلا عن دراسة الواقع وخطط التمويه ، والعلم بالجغرافيا ، وإعطاء الدرس الكبير في القيم كيف تكون ( المزيد بكتب السيرة )
** التوكل الكامل ، واليقين والثقة في الله عز وجل ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا "
** التضحية :- لا تقوم الدعوات ولا تبني الأمم ، ولا ترسخ القيم والمبادئ إلا بالتضحية ، والتي لا يحول دونها طمع ولا يخل ، وهي كما سجلها الإمام البنا " بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية , وقد تنوعت صور التضحية لدي الصحابة حتى شملت كل أنواعها ، فكانت التضحية بالمال والنفس والولد والزوجة والبعد عن الزوج والراحة ومفارقة الأوطان ...الخ ، وما أحوج مصرنا اليوم إلي التضحية والبذل فالشعار الواجب رفعه هو ( مزيد من الصبر والأمل والعمل )
نتائج الهجرة
فقد تمثلت في بناء مجتمع فريد ، ونموذج راق للدولة التي تقوم عل التعاضد والتكافل والإخاء، ولقد وضع الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم أسس البناء الحضاري للدول ، والذي نلمسه في الآتي :-
** تكوين مجلس الشورى من الأنصار والمهاجرين حيث قال الرسول لأصحاب بيعة العقبة (أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثَنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا؛ لِيَكُونُوا عَلَى قَوْمِكُمِ بِمَا فِيهِمْ". واجتمع الأوس والخزرج لينتخبوا من بينهم النقباء الاثني عشر دونما تدخل منه صلي الله عليه وسلم ، وكان مجلس شوري الرسول قرابة الأربعين من المهاجرين والأنصار
** إعلان الهوية الإسلامية للدولة : فكان من أول أعماله بالمدينة بناء المسجد ، إعلانا للهوية ومجمعا للعيادة وصرحا للعلوم والمعارف ، وغرفة عمليات مركزية تدار من خلالها شئون الدولة
** تدعيم القضايا المجتمعية ، وإقامة التكافل الاجتماعي من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
** الإعلان الدستوري العام ،من خلال وثيقة المدينة التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول هجرته إلى يثرب، تنظيما لساكنتها من المسلمين وغير المسلمين، لجما لطغيان الطوائف والعصبيات على بعضها، وإقرارا لمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، في سماحة وعدالة لم تعرفهما أحدث القوانين الوضعية المعاصرة ولم تقترب من سموها ، لقد كانت هذه الوثيقة المدونة أول تعاقد سياسي رسمي ، حدد مبدأ المواطنة ، ومبدأ التكافل الاجتماعي ، ومبدأ الحفاظ علي أمن الدولة وسلامتها ، ومبدأ المساواة وحرية الاختيار .... الخ
** وبعد ونحن علي أبواب بناء دولة رائدة جديدة ، هل آن لجميع عناصر المشهد السياسي في مصر ومفرداته بدء ً من المجلس العسكري ، والحكومة ، والقوي والأحزاب السياسية ، والتيارات الدينية ، وائتلافات الشباب والإعلام أن تحزوا حزو الجيل الأول ونعلي المبادئ والقيم ، ونحقق في أنفسنا ما حققت الهجرة في مجتمع الرسول ، وهل لنا أن بخطي المصطفي عليه الصلاة والسلام ، وهل لنا أن نتحلى بالآية الكريمة " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) ، وهل تكون الهجرة والعام الهجري الجديد فاتحة خير ونافذة إشراق لمصرنا الجديدة ، يقيننا في الله كبير أن يخرج مصر من محنتها ، وأن يجمع قلوب أبنائها ، ويجعل لنا فرجا قريبا ومخرجا ، ففي مناسبة الهجرة نقرأ قوله تعالي ( .. إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ، فأنزل الله سكينته علية ، وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا ، والله عزيز حكيم )

