د/ محمد شكري علوان :
منذ عقود بعيدة والفجوة واسعة والهوة سحيقة بين النخب وعموم جماهير الشعب في مصر ، ففي حين تدور معظم النخب حول مصالحها الشخصية وخدمة أفكارها التي تبنتها من خلال ارتباطها بالمنظومة الغربية ، تبقي الجماهير في غالبيتها وفية لميراثها الحضاري والإسلامي ، وبالتالي يزداد الانفصام والاتساع بين نخبة تريد أن تجر البلاد إلي استسلام لكل ما هو غربي وعلماني ، وجماهير تريد الاستقلال والتميز في الهوية والانتماء .
وعلي الرغم من معرفة الكثير للجذور الفكرية والتاريخية للنخب ومدي انقيادها للغرب ، إلا أنها دائما ما تحاول التعالي علي الجماهير ، بل ووصل الأمر إلي حد التطاول والاتهام ، فهذا يصفها بالجهل وذاك يتهمها بعدم الوعي ، وذاك يحاول فرض الوصاية عليها ، والتاريخ القريب والبعيد يثبت ويبرهن أن عقل الجماهير أسبق فهما ، وأعمق وعيا ، وأصدق قيلا ، من هذه النخب مهما حمل أصحابها من شهادات وإجازات غربية كانت أو شرقية .
لقد رفضت الأمة التطبيع مع العدو الصهيوني كما رفضت الاستسلام والإذعان ، في حين هرول الكثير من النخب إلي طلب الرضا من الأمريكان واليهود ، بل لقد كانت الأمة أعمق فهما حتى من بعض علماء السلاطين الذين حرموا العمليات الاستشهادية في فلسطين ، فما التفتت الجماهير إليهم ، ولا اعتدت بكلامهم ، بل احتضنت الأمة الجهاد والمجاهدين ، وحفرت للاستشهاديين مكانا لائقا في القلوب .
وحين أستسلم الكثير من النخب للفساد والاستبداد وساروا في ركاب الحكام الظلمة ، أبت الجماهير إلا أن تقاوم ، فكان الصبر أولا ، ثم كان إنكار القلب ، ثم كان إعلان التحدي وعدم الخضوع وعدم الخوف ، والنضال الدستوري والقانوني بالمنافسة والتضييق علي النظام المخلوع في كل انتخاب رغم البطش والتنكيل ، بل كانت المظاهرات والإضرابات ، وكانت حركات الشباب والثورة الإلكترونية ، حتى أتم الله وعده وكانت الثورة العظيمة التي ستظل علامة مضيئة علي طريق تقدم مصر وريادتها .
والعجيب الآن أن العقلية لم تتغير حتى بعد أن رأت الآيات ، فلا يمر يوم حتى نُصدم بمن يعيشون في كهف الأوهام ظانين أنفسهم فوق إرادة الشعب ، لم يتجاوزوا بعد مصالحهم وهمهم الشخصي ، ولا عقليتهم القديمة ، التي مازلت تسول لهم بأنهم أوصياء علي الشعب ، ولا ندري من أين لهم هذه الجرأة التي تصل الي حد الوقاحة؟!.
الدكتور السلمي ووثيقته :
علي نفس المنوال الذي صار عليه سلفه ، يتحرك د. السلمي ، متجاهلا يقظة الشعب ملتفا علي إرادته ، فلماذا مبادئ فوق دستوريه يا دكتور ؟! ولماذا الوصاية علي الإرادة الشعبية ؟!
.إن السباحة ضد تيار الإرادة الشعبية مكتوب عليه بالضياع ، فقد انحلت عقدة الخوف ، ولن يعود الشعب إلي الوراء .
لقد رفضت جماهير الشعب بكل طوائفه الافتئات علي الاستفتاء الشعبي المثالي الذي تم في مارس الماضي ، ووقفت قيادات العمال في رمضان الماضي وفي مقدمتهم قيادات العمال من الإخوان معلنة رأيها أمام الدكتور السلمي ( في اجتماعه بهم في قاعة مجلس الشعب أثناء مناقشة قانون الحريات النقابية ) قائلة له " إن شعبا عظيما قام بثورة عظيمة أبهرت العالم كله ، لن يرضي بوصاية أحد ولا الالتفاف علي ثورته ، وكذلك فعلت كل القوي الوطنية .
إن الوثيقة التي يسعي د. السلمي لإقرارها تشكل ردة واضحة عن الثورة، في أدنى درجاتها وأقل مكتسباتها وذلك لتناقضها مع الإعلان الدستوري الصادر بعد استفتاء مارس في الأتي :-
· أنها وثيقة تضرب بالإعلان الدستوري عرض الحائط أصلا وفصلا وتناقض صريح المادة ( 60 ) من الإعلان والخاصة بتكوين الجمعية التأسيسية للدستور .
· أنها تعد افتئاتا على إرادة الشعب وحقه في صياغة دستوره بالإرادة الحرة للجمعية التأسيسية المنتخبة من قبله.
· أنها تسلب البرلمان سلطته ، حيث تحول بين البرلمان وبين حقه الأصيل في مناقشة بنود موازنة القوات المسلحة باعتبارها جزءا من موازنة الدولة ، تأسيسا على حقيقة أن القوات المسلحة جزء من الدولة وليست سلطة فوقها.
· أنها تجعل من المجلس العسكري رقيبا على البرلمان، على نحو يقيد حقه في إصدار القوانين التي "تتعلق" بالقوات المسلحة.
· أن نص المادة ( 9 ) والمادة (10 ) من الوثيقة يكرس هيمنة المجلس العسكري و"تأبيد" سلطاته ، ويقحم الجيش فيما ليس من اختصاصه ، بل يعد هاتين المادتين انقلاب صريح علي مبدأ الديمقراطية .
· أن الوثيقة تعد بمثابة وصاية تفرض علي الشعب من قبل فئة قليلة لا تمثل إلا نفسها متجاهلة عظمة هذا الشعب وميراثه الحضاري ، كما تتجاهل الدماء والتضحيات والشهداء .
مقاومة هذه الوثيقة والداعين إليها واجب الوقت :-
إننا نريد معالجة فورية لظاهرة استخفاف النخب وبعض المسئولين بالحكومة بجماهير الأمة ، والتصدي لكل من تسول له نفسه الالتفاف علي الشعب وإرادته ومؤسساته ، وخاصة مؤسسته التشريعية .
مخاطبة الجميع عبر كل الوسائل للكف عن هذا العبث .
المشاركة في كل الفعاليات التي تدعوا إليها القوي الوطنية للحد من هذه الظاهرة حتى تهدأ البلاد وتمارس حياتها الطبيعة .
توعية الشعب بما يحاك له ، والخطورة المترتبة علي أي تقاعس تجاه مثل هذه الظواهر .
وأخيرا
** نؤكد أن مجتمعنا بخير , وما فقده في مظهره الخارجي من قوه الدين أو ضعف الولاء لا يساوي ما هو مخزون في مكنون ضميره من وفرة لا يعلمها إلا الله، وعلينا تقوية الرقابة الشعبية , والعمل علي تكوين الرأي العام القوي الفاضل بما له من رقابة نفسية كبيرة تحاصر الأشرار علي أنفسهم , ويعطي الشجاعة للخير في إعلان خيره .
كما يجب الحرص على الإجماع الوطني ، والسعي إلى بناء كتلة اجتماعية وسياسية قوية تستعصي علي الاستبداد والفساد، وتفتح أمام مصر، باب الريادة من جديد ، علينا جميعاً أن نتذكر أن “ لب التغيير” الحقيقي، والنهضة المنشودة، لن تكون في نوادي النخب وتجمعات رجال الأعمال، بقدر ما هي عند تلك الطبقات الأدنى التي هي مادة التغيير الحقيقي وهدفه.

