17 / 03 / 2011

حازم سعيد :

لا يستطيع من عاش عقوداً مثلى عانى فيها ويلات الفساد والحكم الطوارئى والمؤامرات على بلدى مصر أن ينفك عن الريبة من قرارات الساسة وخاصة رجال الأمن ، مهما حاولوا أن يزينوا هذه القرارات .
كذلك فإن ما سجلته لنا أحداث التاريخ القديم والحديث عن صنائع المفسدين ودسائسهم ومؤامراتهم والتفافهم وحيلهم على شعوبهم والأكاذيب التى طالما خدعوا بها هذه الشعوب لكفيلة بأن تضعنا دائماً فى موقف الحذر المتثبت من خطوات أولئك الذين أتحدث عنهم ، خاصة وهم تثقفوا وكبروا وترقوا فى ظل حكومات كاذبة مخادعة ، فتبقى مظنة انخلاعهم من الفساد والتحايل بالكلية بعيدة بعض الشئ .
لا أتهم أحداً بهذه الكلمات ، ولكنى هنا أرصد خبر إلغاء جهاز أمن الدولة وإنشاء جهاز الأمن الوطنى بدلاً منه وعمومية ألفاظه ودلالة توقيته والدافعية لإنشاء هذا الجهاز الجديد الذى بشرنا به بعد جهاد الثوار الطويل ضد سالفه " أمن الدولة " .
أما الخبر فأوردته وكالة أنباء الشرق الأوسط كالتالى :
قرر وزير الداخلية المصرية منصور العيسوي الثلاثاء " إلغاء جهاز مباحث أمن الدولة بكافة إداراته وفروعه ومكاتبه في جميع محافظات الجمهورية " .

كما قرر الوزير "إنشاء قطاع جديد بالوزارة يسمى "قطاع الأمن الوطني" مهمته الحفاظ على الأمن الوطني والتعاون مع أجهزة الدولة المعنية لحماية الجبهة الداخلية ومكافحة الإرهاب وفقا لأحكام الدستور والقانون ومبادئ حقوق الإنسان وحريته" وفق ما ذكرت الوكالة.
وفى وقت لاحق له - فى نفس اليوم - وبمداخلة مع قناة الحياة قال الوزير أنه سيتم اختيار العناصر الجيدة جدا من جهاز أمن الدولة المنحل لضمها لجهاز الأمن الوطني وسيتم استكمال تشكيل الجهاز الوطني من بقية العناصر الشرطية الجيدة التي لديها وعي عال في مجال قضايا مكافحة الإرهاب والتجسس داخل البلاد.

ولنا ملاحظات على هذا القرار  :

أولاً التوقيت :
يأتى هذا التوقيت مريباً جداً ، لماذا ؟ لأنه يستغل انشغال الناس - كل الناس - بالتعديلات الدستورية ، فيلقى بقنبلة دخان يهيئ فيها الرأى العام ويؤسس فيها باللاوعى المصرى ضرورة وجود كيان بديل لجهاز أمن الدولة  ويصبح أمراً مسلماً به وبديهياً لدى الناس وتألفه عقولهم ولا ينتفض الثوار ضده .
من المعروف أن إرهاصات إلغاء جهاز أمن الدولة جاءت مع بداية الثورة فى يوم 28 يناير حين أحرقت بعض المقار وتأكد الإلغاء واقعياً وبقرار من الثوار عندما حوصر الجهاز فى عدة بلدان وقام ضباطه بأيديهم بإتلاف المستندات وحرقها ، وذلك يومي 4 ، 5 من الشهر الجارى .
ولكن القرار يأتى متأخراً عشرة أيام كاملة ليعلن فى توقيت انشغال الناس وبصورة خاطفة ليراقب المختصون رد فعل الثوار عليه ، ولكن كيف سيكون لهم رد فعل وهم منشغلين بالتعديلات والخلاف القائم بين المؤيدين أو المعارضين وحالة الاستغراق الكلى التى هم عليها الآن فى النقاشات حولها .
تأخر قرار الإلغاء الرسمى للجهاز هذه الأيام العشرة ، ليأتى قبل الاستفتاء بثلاثة أيام فقط ، وهو وقت لن يعبأ فيه أحد له وربما حتى لهذه المقالة التى تحذر منه .

ثانياً : هل كان الإلغاء يحتاج إلى قرار ؟
بعد الحرق والإتلاف وثبوت التآمر ومحاكمة الضباط وإغلاق المقار بعد حصارها والثورة عليها وتسليمها للجيش ، هل كان الجهاز ينتظر قراراً للحل والإلغاء ؟ لقد تم إلغاء الجهاز إلى الأبد بقرار شعبى حر وبثورة مصرية خالصة ، وما حله الشعب ولغاه .. هل يجوز الالتفاف عليه وإنشاؤه مرة أخرى والتحايل على ذلك بتغيير التسمية ؟

ثالثاً : ما الفارق بين الجهازين ؟
إن من يراجع منطوق قرار الوزير بإنشاء جهاز الأمن الوطنى سوف يكتشف بأن جهاز أمن الدولة قد عاد إلينا من جديد بمسمى آخر ، وأتحدى من يستطيع أن يأتى بفارق واحد بين مهمة الجهاز الذى أعلن وبين جهاز أمن الدولة .
الوزير يقول أن مهمة الجهاز هى : " الحفاظ على الأمن الوطني والتعاون مع أجهزة الدولة المعنية لحماية الجبهة الداخلية ومكافحة الإرهاب " .
والمنصوص عليه من مهمة جهاز أمن الدولة السابق هى : " حماية الأمن المصري، ومحاربة الإرهاب والتطرف وكل ما يهدد الأمن المصري " .
من ذا الذى يستطيع أن يأتينى بفارق بين الجهازين ؟

إننا لم نكن نحارب سلوكيات ظالمة لأفراد الجهاز البائد وفقط ، بل كنا نحارب كياناً كاملاً بأهدافه وبرامجه وخططه ومهامه .. ثم فى النهاية تأتى سلوكياته وممارساته الجائرة ، وأيضاً فإن عدم وجود فارق بين المهام الموكلة للجهازين سوف يؤدى بنا فى النهاية إلى نفس الممارسات والسلوكيات السابقة لأنها لم تكن تنبع من أفراد فاسدين ، وإنما كانت سلوكيات أصيلة مرتبطة بما حدد للجهاز من مهام فهى سلوكيات لازمة للمهام وليست للأفراد .

رابعا : تناقض الوزير :
فى تصريحاته يوم 6 مارس من الشهر الجارى قال الوزير أن جهاز أمن الدولة سوف تقتصر مهمته على محاربة الإرهاب ، وفى مداخلته مع فضائية الحياة قال كلاماً مشابهاً .
فى حين يأتى هنا ويتوسع فى صلاحيات جهاز الأمن الوطنى الجديد لتشمل التعاون مع أجهزة الدولة المعنية لحماية الجبهة الداخلية ؟ فما معنى هذا الكلام ؟ معناه تغول جهاز الأمن الوطنى كما تغول سابقه البائد فى السيطرة على كل مؤسسات الدولة من باب التعاون فتوقف الترقيات وتقدم التقارير الأمنية وتحاصر المؤسسات والأجهزة ويسجن الشعب من جديد ؟!

خامساً :  ما معنى ضم عناصر من جهاز أمن الدولة السابق به ؟
الوزير يقول أنه سيتم اختيار العناصر الجيدة جدا من جهاز أمن الدولة المنحل لضمها لجهاز الأمن الوطني ، هذا كلام خطير جداً ، لأنه يؤكد المعنى الذى أذهب إليه فى هذه المقالة ، وهو أنهم يلتفون حول الثورة ويؤسسون كياناً آخر لمحاصرة هذا الشعب ، لأن عقليتهم الأمنية البوليسية لا تستطيع أن تدرك إلا هذا .
كيف ستؤدى عناصر أمن الدولة هذه دورها بعيداً عما تربت عليه وعن الثقافة التى تشكلت عندها فى ظل الجهاز البائد ، وكيف ستحدد أيها الوزير أنها كانت عناصر جيدة جداً ؟ ، وما هى المعايير التى ستبنى عليها التقييم ؟ أوليست هى معايير وتقييمات لرؤسائهم السابقين الذين يحاكمون الآن ؟ كلام خطير جداً يعنى أن الجهاز هو هو وأننا " محلك سر " .

سادساً : ما الدافع أصلاً لجهاز بديل عن أمن الدولة :
وهنا أتحدث عن ثلاثة عناصر :
1) جهاز أمن الدولة .. تاريخ شائن ومرعب :
سأحيلكم فى نهاية المقال لتاريخ أمن الدولة من الويكيبديا لتعرفوا كيف انشئ هذا الجهاز وكيف تلونوا على تغيير اسمه مرات ومرات وبقى هو هو يؤدى دوره فى إذلال الشعب المصرى وسجنه واعتقاله وحصاره ومحاربة القوى الوطنية فيه مع تغيير اسمه فى كل مره ، فمن قسم المخصوص الذى أسسه الإنجليز لحرب القوى الوطنية إلى القلم السياسى إلى جهاز المباحث العامة إلى مباحث أمن الدولة إلى قطاع مباحث أمن الدولة ثم جهاز أمن الدولة ، ثم تأتى النسخة الأخيرة باسم جهاز الأمن الوطنى وهى نفس التسمية الموجودة بدول خليجية تنتهك حريات الإنسان الآن وتمارس نفس الدور الذى مارسه عندنا جهاز أمن الدولة .

2) لماذا لا توزع مهامه على فروع الداخلية الأخرى :
كيف لا يستطيع جهاز الشرطة المصرية على اتساعه وجهاز المباحث القائم به والبحث الجنائى والآداب والمخدرات و .... كيف لا يفلح كل أولئك فى رعاية الأمن المصرى الداخلى ، حتى نؤسس لهم جهازاً آخر يقوم بذلك ؟
إن الموضوع يعطينا تصوراً عن العقلية التى أصدرت القرار ، هى عقلية تشكلت وتربت فى ظل الانظمة القمعية ، واستمدت خبراتها وتجاربها ورصيدها الثقافى والمعرفى فى ظل الديكتاتورية بل كانت أداة من أدواتها فى يوم ما ، فليس من السهل عليها أن تقلع هكذا بين يوم وليلة عن هذه الثقافة والخبرة والعقلية ..
كان من الممكن أن ألتمس لها العذر إن كان قرارها هامشى أو فى إجراء لحظى ، أما وهى تتخذ قراراً هو بمثابة تأسيس لحقبة جديدة قد تذهب ببلدى مصر إلى ردة عن ثورتها الحضارية وطريقها الديمقراطى القادم بإذن الله ، فهو الأمر الذى لا يمكن السكوت عليه .

3) موضوع الإرهاب :
هو عنوان اخترعته أمريكا وتبعها فيه أذنابها ببلادنا وصدقته الشعوب المستغفلة ، وقد أصبح الطنطنة عليه بعد الثورة درباً من الخبال أو من " الاستهبال " ..
فأين ذهب هذا الإرهاب أثناء غياب الشرطة كليةً عن الشارع وعن الوطن ؟
هل خاف من أناس بلدى المسالمين البسطاء الذين حموا مصر من الانفلات الأمنى الرهيب الذى أرادته الشرطة كلها كجهاز وأفراد - إلا من أحب مصر من قلبه منهم - وقليل ما هم .
أعلم أنه لا يوجد شئ اسمه الإرهاب ، وأوقن أن الذى كان يوجد فى ظل الأنظمة القمعية شئ اسمه كبت الشعوب وقهرها تولد مقابله رد فعل عن بعض شبابها بعنف مضاد .. ولكنه ليس أصيل وليس مبدءاً لأحد .
إن ما أفرزته الثورة من تلاحم شعبى أثبت تراحم المصريين بعضهم مع بعض فلم نر فارقاً فى الأمن والأمان والمسالمة بين مذهب وآخر ولا بين مسلم ومسيحى ، ساد الأمن والتراحم والحفاظ على الآخر كل بلدى مصر أثناء الثورة .
حتى عندما حاول الطابور الخامس تفجير فتنة طائفية كان اول المدافعين ضدها من اتهموا فى حقب سابقة بالإرهاب من أمثال الإخوان أو بعض مشايخ السلفية وغيرهم .
المسيحيون أنفسهم استغاثوا فى بعض مداخلاتهم الفضائية برموز إخوانية من أمثال المهندس خيرت الشاطر أو الدكتور عصام العريان لحل مشكلة الكنيسة المهدومة .
إن هذا يثبت أن ما يسمونه الإرهاب هو أسطورة تعششت وباضت وأفرخت وهماً أمريكياً صهيونياً خالصاً ، لا ينبغى السير فيه على طريق أذنابهم البائدين .

سابعاً : صلاحيات حكومة تسيير الأعمال :

وأختم ملاحظاتى بهذا التساؤل : أفهم أن سلطة أو صلاحية حكومة تسيير الأعمال هى رعاية مصالح الناس كفترة انتقالية ، وتسيير الأعمال لفظ يوحى بأنها جهة من شأنها اتخاذ التدابير اللحظية .. واللحظية فقط .. التى من شأنها أن تسير البلد للوضع الذى ستأتى فيه حكومة أخرى هى التى تختص بتأسيس وقيادة الدفة نحو المستقبل .

فما علاقة حكومة " تسيير الأعمال " بإنشاء مثل هذا الجهاز الخطير وتأسيسه واتخاذ قرارات دموية كارثية بالاستعانة بالكوادر السابقة من أمن الدولة ؟ كيف لها أن تؤسس هذا الجهاز ، أوليست بهذه الطريقة تفتئت على الحكومة القادمة وتتعدى اختصاصاتها وتدبر ما ليس من شأنها ؟

سؤال للتأمل واتخاذ اللازم أتوجه به إلى رئيس الوزراء وإلى المجلس الأعلى العسكرى وإلى المفكرين والثوار .

وفى الختام أحذر نفسى وإخوانى وكل الثوار من هذا الطاغوت القادم ، وأطالب رئيس الوزراء الذى خرج من رحم الثورة كما أطالب المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يستمروا فى دورهم المشرف فى الحفاظ على الثورة ومطالبها بعدم إنشاء هذا الجهاز لأن ما يدعونه عن اختصاصاته هى اختصاصات أصيلة عند الأجهزة الأخرى داخل الشرطة المصرية ، أو المخابرات التابعة للجيش .
لقد شبعنا وهرمنا - كما قالها التونسى من قبلى - ونحن نحلم بانقضاء جهاز أمن الدولة وعندما يأتى هذا اليوم الذى نحصل فيه على ما حلمنا به يحاولون الالتفاف على نصرنا ليقتلوا فرحتنا .
هذا ما أحذر منه ، وأسأل الله أن يجنبنا إياه .
_______

[email protected]

تاريخ جهاز أمن الدولة بالويكيبديا
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%A8%D8%A7%D8%AD%D8%AB_%D8%A3%D9%85%D9%86_%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9