26 / 9 / 2010
بقلم د. حلمى القاعود
يحرص كُتَّاب الأمن في الصحف الخاصَّة والحزبيَّة والحكوميَّة على أداء واجبهم بامتياز؛ إثباتًا للولاء، ودعمًا للرفاق، وسعيًا لمزيدٍ من المكاسب والامتيازات، ولم يكن المسلسل الأمني البائس الذي تناول حياة الإمام الشهيد حسن البنا إلا مناسبةً ذهبية لهؤلاء الكُتَّاب، كي يتنادوا، ويعبِّروا عن مهمتهم الرخيصة في التشهير بالإسلام ودعاتِه وتشريعاتِه.
قال بعضهم: إن المسلسل تحفة فنية! وكما يعلم القارئ فالتحفة هي الأثر النادر الذي يَجمع من علامات الفن والنُّدرة؛ مما يجعلها شيئًا متميزًا يُشار إليه في كلِّ العصور والأوقات بوصفه غير مسبوق ولا ملحوق، والمسلسل الأمني الذي تناول حياة الإمام الشهيد ليس تحفة فنية بكلِّ تأكيد، فهو من أضعف أعمال مؤلفِه، وإذا قيس مثلًا بفيلم "طيور الظلام" الذي شهَّر بالإسلام وربطَه بالدم والبلاهة وتجارة العملة، وكشفَ جانبًا من فساد السلطة ومخازيها وأساليب كذبها وخداعها للعامة.. فإن كفَّة الفيلم ترجح كفة المسلسل؛ لأن الفيلم استوفى عناصر الإقناع الفني -لا الفكري- ولم يأتِ مبتورًا بالقوة كما جاء المسلسل، ولم تحكمه الخطابة والصوت العالي للمؤلف كما جرى في المسلسل (على سبيل المثال خطب عزت العلايلي، وأحمد راتب، وخليل مرسي!)، صحيح أنه كانت هنالك خطب موظَّفة جيدًا، مثل خطب عبد الله فرغلي -رحمه الله- وبعض خطب الإمام الشهيد على لسان إياد نصار في مراحله الأولى؛ ولكن السياق العام كان يتجه نحو حضور المؤلف بصوته الزاعق، وكأنه يكتب مقالًا في (روز اليوسف) الموالية للسلطة!
ثم إن المسلسل الأمني لو كان تحفةً فنية كما زعم الكُتَّاب الأمنيون في مقالاتهم البائسة، ما ظهر المؤلف بهذه العصبية الزائدة في بعض القنوات والصحف؛ ليرد على منتقديه ردودًا عنيفة غير منطقية وغير مقنعة؛ وصل بعضها إلى حدّ السباب، مثل وصفه لمنتقديه بـ "الغَجَر"، أو وصفه للمتحدث الإعلامي للإخوان بـ "الولد"، وهو يعلم أنه أستاذ جامعي يحمل أعلى الدرجات العلميَّة، ويتمتع بأخلاق عالية -ولا أزكيه على الله- بالإضافة إلى وصف من انتقدوا المسلسل الأمني بأنهم صغار الإخوان، وهو يعلم أن كثيرًا ممن انتقدوا الإخوان لا يشاركون الإخوان تنظيمهم، ولا ينتسبون إليهم بصلة فكريَّة، ولكن هالهم حجم التشويه لسيرة الإمام الشهيد، وتبييض وجه النظام الظالم المستبِدّ!
ولا أدري لماذا ينزعج مؤلف المسلسل الأمني من انتقاد مسلسله وتشريحه فنيًّا وفكريًّا، وهو يعلم جيدًا أن من أَلَّفَ قد استهدف!!
كان يستطيع أن يدافع عن نفسه بالعقل والمنطق، وأن يرد على ما يوجه إليه؛ خاصةً أنه أُتيح له مساحات ورقيَّة وساعات فضائيَّة تكلم فيها طويلًا، وهجا فيها كلَّ خصومه وخصوم السلطة، وقال فيهم ما قال مالك في الخمر، ثم إنه اتهم أحد محاوريه في التليفزيون بأنه ينظر إلى حسن البنا على أنه نبي، وقال له: لا تغلط مثل الإخوان، ومعلوماتي الموثَّقة عن الإخوان أنهم لا يقدِّسون غير الله، ولا يؤمنون بالعصمة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد عرفت مرشدي الإخوان جميعًا باستثناء الأول والثاني والأخير، فما وجدتُ أحدًا يقدِّسهم، أو يضفي عليهم ثوب العصمة، وكان الأستاذ عمر التلمساني -رحمه الله- يسمع مَن يخالفونه الرأي في الاجتماع الشهري لمجلة الدعوة، وكنت أحضره ضيفًا، وكان الرجل لا يضيق برأي أحد، بل يترك كلَّ من لديه ملحوظة أو رأي آخر أن يفضي بما لديه، وفي النهاية يتم التصويت على هذه الآراء والأفكار المخالفة، وما تقرُّه الأغلبية يمضي، فلا استبداد برأي، ولا قمع للآراء المخالفة، ولا أدري هل يفسّر مؤلّف المسلسل الأمني هذا السلوك تفسيرًا ديمقراطيًّا أم تفسيرًا ثوريًّا؟
ولا أظن أن المرشد السابق الأستاذ محمد مهدي عاكف كان مرشدًا مستبدًّا يقدِّم يده لزواره يقبلونها، كما صوَّره المسلسل الأمني، ويكفي أنه أول مرشد سابق أو مسئول عن أحد التنظيمات الكبرى في مصر يحمل لقب (سابق)، فهل لدينا رئيس سابق، أو حاكم سابق إلا إذا غيَّبه الموت أو طواه القبر، ثم إن تقديم الإخوان لنموذج انتخاب القيادات العليا في انتخاب المرشد الحالي؛ تحت ظروف المطاردة البوليسيَّة، كان تشجيعًا لحزب الوفد أن يقوم بانتخاب رئيسه لأول مرة بطريقة ديمقراطيَّة، ويكون لديه رئيس سابق، وهي خطوة أثنى عليها المحبون للحريَّة والديمقراطيَّة في كلِّ مكان، وكنت من أوائل من أَثْنَوا على هذه الخطوة.
إن الأستاذ محمد مهدي عاكف لم أره يُقدِّم يده لأحد كي يُقَبِّلَها، وقد رأيته قبل عقود رجلًا رياضيًّا بسيطًا بشوشًا، يتحدث بلغة أولاد البلد الحميمة مع مَن يعرفه ومن لا يعرفه، وهو الآن فيما أظنُّ يسير في الشارع في بساطة متناهية، ويحضر الندوات العامة والثقافيَّة مثل أي باحث عن المعرفة، ويلتفّ حوله الناس حبًّا وتكريمًا، وإذا كان بعض الناس يُقَبِّل جبينه أو يده، فهذا نابع من الحب الحقيقي، وقد رأى الناس من الوزراء من يقبل يد زوجات مسئولين أكبر، دون أن يجدوا في ذلك غضاضة، ومنطلق التقبيل هنا هو المصلحة وما تفرضه من تزلُّف ونفاق.. ولن أحدثَك عن بعض الطوائف في مصرنا العزيزة التي يقوم أفرادها مهما علتْ مناصبهم ومستوياتُهم بتقبيل أقدام رؤساء الطائفة، وتظهر الصورة أسبوعيًّا على شاشة التليفزيون في المناسبة الدينية
إن الديمقراطيَّة أو الشورى كما يسمِّيها أهل الإسلام مطلب مهم، ولا أظن أحدًا يعارض في ذلك، وهي لا تحدث إلا إذا كانت هناك بالفعل على أرض الواقع سياسة وسياسيون، ولكني أريد أن أسأل المؤلف الأمني صاحب التحفة الفنيَّة التي شوهت التاريخ والجغرافيا: هل في مصرنا العزيزة سياسة وسياسيون؟ الإجابة للأسف كما يعرفها بالنفي.
فالنظامُ ارتضى أن يسندَ للأجهزة الأمنيَّة تسيير شئون البلد بالطريقة المستبدة الفاشيَّة؛ ولذلك لا يسمح لأحد أن يشاركه في الرأي أو العمل أو الاختيار.
إن الديمقراطيَّة كما يعلم مؤلِّف المسلسل الأمني الذي أشرفتْ عليه وزارة الإعلام، كما أشار إلى ذلك الكتَّاب الأمنيون صراحةً، لا تقوم إلا على التوافق، واحترام كرامة الإنسان أيًّا كان هذا الإنسان في طبقتِه أو عرقِه أو دينِه أو مذهبه، ويكون الرأي للأغلبية وفقًا لدستور حقيقي، وقوانين منظَّمة لهذا الدستور.. فهل لدينا توافقٌ عام بين السلطة وبقيَّة القوى التي يطلق عليها سياسية؟ بالطبع لا، ولا أظن أحدًا ممن يطالبون بدمج الإخوان في الواقع السياسي -وأنا معهم- يستطيع القول بأن السلطة الحاليَّة تريد توافقًا حقيقيًّا بين جميع قوى الشعب، إنها تريد تنفيذ إرادتها هي ولو جاءت على حساب كل القيم؛ ولذا يخطئ من يقول إن الأحزاب الورقيَّة أو القوى السياسية في المجتمع المصري تمارس السياسة على أرض الواقع.. إنها قوى تثرثر في السياسة وتتكلم عنها، ولا تستطيع أن تمارسها.
ثم إني أسأل سؤالًا بسيطًا: هل يستطيع أي حزب رسمي باستثناء حزب السلطة أن يقيم سرادقًا في أحد الشوارع ليلتقي بالجمهور ويعرض أفكاره؟ أنتم تعرفون الإجابة!
إن الانحراف بالموضوع نحو القول بأن الإخوان لا يحبون الديمقراطية، ولا يمارسونها، وإذا وصلوا إلى الحكم فسوف يحكمون نيابةً عن الله، ويرغمون الناس على القبول بسياستِهم لأنها من عند الله! أقول إن هذا الانحراف يحمل كثيرًا من المغالطات، لأن الإخوان وبقية المجتمع المصري فيما أزعم يحبِّذون دولة تقوم على المؤسَّسات الحقيقية التي تديرها وتحركها الكفاءات والعقول العلميَّة، وليس المحاسيب والأنصار، في ظلّ دستور يعبِّر عن هويَّة الأمة ويحفظ خصائصها واستقلالها.
ثم إن مَن يرفعون فزاعة التجارب الفاشلة في أرجاء العالم العربي والإسلامي، ويحملونها للإخوان المسلمين في مصر؛ مخطئون، لأنهم أولًا غير مسئولين عن هذه البلاد، وثانيًا لأن المغامرين الذين رفعوا الراية الإسلاميَّة أحيانًا لا يمثِّلون الإسلام ولا المسلمين، وأذكر أنني عارضت التجربة الفاشلة في السودان في أكثر من مناسبة، بينما كان النظام في مصر يؤيدُها ويدافع عنها، حتى كانت حالة التحوُّل الدرامي بسبب محاولة الاغتيال الفاشلة في أديس أبابا، وترتَّب على هذا التحوُّل للأسف أن صار انفصال جنوب السودان وشيكًا، وتقسيم بقية السودان أمرًا يعمل من أجلِه خصوم الإسلام وأعداء المسلمين.
تمنيتُ لو أن المسلسل الأمني التحفة الفنيَّة كما وصفه الكتاب الأمنيُّون عرض في سياق حلقاتِه لضرورة التوافق بين السلطة والشعب من أجل المستقبل؛ لأن الديمقراطية لا تأتي أبدًا في ظلّ الطوارئ، ولا تحت حكم الحزب الواحد الذي ينضمّ إليه أصحاب المصالح غير المشروعة، ويسرقون أموال الشعب وينهبون أراضيه بالقانون الذي يصمِّمونه ويوافقون عليه.
بدلًا من اتّهام الإخوان بعدم الديمقراطيَّة؛ لأنهم يردُّون على المسلسل الأمني بمقالات محدودة على شبكة المعلومات، ولا يُتاح لهم الفضاء التليفزيوني وصفحات الصحف، يجب أن ندعو إلى الديمقراطية عن طريق التوافق، وإذا أفلحْنا في ذلك فعلى جميع الناس أن يلتزموا بالدستور الحقيقي وبالقوانين المنظّمة له، وساعتها سيكون للصوت الانتخابي غير المزوَّر دوره في توصيل مَن شاء إلى سدّة الحكم، وإنزال مَن يشاء عن هذه السدَّة، وقبل هذا وذاك يفرزُ النخب الصالحة لبناء الوطن وتقويتِه وإعزازِه.

