20/07/2010
هشام الناصر :
أولا : الثورة الافتراضية :
تعيش مصر إرهاصات ثورة "افتراضية" لاستحالة قيام الثورة "الحقيقية" بمعناها التقليدى – وهذا طبقا لحسابات مادية قد تسقط بظهور عوامل خفية لا نراها . فعدم إدراك الشيء لا يعنى عدم وجوده.
سبق لشخصية أكاديمية من منظرى السلطة أن وصف "الافتراضية" (فى برنامج فضائى) بالوهمية الأقرب إلى الخيالية (illusion) فى محاولة منه للتقليل من شأن المجتمعات الفكرية التى ظهرت عبر أثير الإنترنت. هو وصف غير صحيح يؤكد ضعف الإمكانيات وزيف المؤهلات.
الافتراضية هى مصطلح يعنى تحقيق الواقع المادى بوسائل ووسائط أخرى للتغلب على موانع التحقيق المعتاد. الموانع قد تكون جغرافية أو سياسية أو مستلزمات مادية.
بالمصطلح الرياضى، تعتبر "الافتراضية" نوعا من نمذجة الواقع. ( التمثيل المجرد للواقع). والفيصل فى الحكم على صحة النمذجة (Modeling) هو تحقيق سمات الواقع الأساسية، المكون التنظيمى وأداء الأعمال وتحقيق الأهداف.
الثورة هى التغيير الإستراتيجى (واسع المدى عميق التأثير) فى الشكل البنائى والوظيفى لمؤسسة ما أو لدولة ما خلال فترة زمنية قصيرة. لخصها "أرسطو" بتعريف فى كونها تغيير "دستور" منظومة الدولة كلية أو حدوث تغيير جوهرى. علماء الاجتماع يضيفون عنصر المشاركة البشرية الواسعة بالدولة كنوع من الرضا والإقرار بالشرعية.
يهدف الحراك المصرى المتصاعد من نهايات الألفية الثانية إلى إحداث هذا التغيير الجذرى فى زمن قصير. تغيير حقيقى وليس تغيير تجميلى. تغيير فى زمن قصير لأن الوقت لم يعد فى صالح الأمة إن استمرت على وضعها الراهن.
حالات "الفساد والإفساد" التى تعانى منها المنظومة المصرية تعتبر "ضعفا" (weakness) فى مكوناتها الكلية وهو ما يزيد درجة تعرضها للإيذاء (Vulnerability) من قبل التهديدات الداخلية والخارجية (تهديدات أمنها وسلامتها) . ومن ثم يرفع درجة المخاطرة. أى مقدار الفقد او الخسارة المتوقعة.
إنه سباق بين عاملين او عمليتين : "سرعة إجراءات علاج" ، و"سرعة استفحال الداء". لا معنى للعلاج إن مات المريض أو أنتكس بشلل رباعى وأصبح قعيدا.
الثورة هى "منتج" (ناتج) لعملية متكاملة اسمها "صناعة الثورة". علوم ومجالات عديدة يمكنها أن تساهم فى تحديد الشكل البنائى لتلك الصناعة – من حيث المكونات والخطوات والأعمال والعلاقات. منها (كمثال): الدراسات المستقبلية، عملية "صناعة القرار"، "نظم إدارة الصراعات". عملية صناعة الثورة (الإصلاح بالتغيير الجذرى) تمتد عبر النطاق الزمنى – الماضى والحاضر والمستقبل. والتى يمكن تلخيصها فى الآتى :
الأساس والبداية فى تحليل الوضع الراهن. الدراسة النقدية لأعمال ونتائج المنظومة الحالية طبقا لإطار مرجعى قياسى (قانونى – أخلاقى – عقائدى فكرى – عقائدى دينى). والهدف هو إظهار الانتهاكات وبيان السوءات. مهارية مفكرى النخبة تكمن فى ضرورة البحث عن علة المشكلة. المشكلة والعلة مصطلحان يستخدمان بالترادف. كلاهما يعنى وجود عائق او مانع لأداء الأعمال وتحقيق الأهداف. المشكلة عرض والعلة مرض. "الصداع" – كمثال – مشكلة تعيق أداء القيام بالعمل وتحقيق هدف الحصول على أجر – والعلة هى "ضرس" فاسد متهرئ أكله السوس. عدم تشغيل السيارة (عدم الدوران) مشكلة تعيق التحرك بها والوصول إلى الغاية، والعلة هى "بطارية" فاسدة الصنع أو منتهية الصلاحية. العلة تؤدى إلى مشكلة. والمشكلة يمكن بدورها أن تبدو كعلة تؤدى إلى مشكلة ثانية. والثانية تؤدى إلى ثالثة … وهكذا. أنها خاصية من قوانين الطبيعة الرياضية – خاصية الإنتقالية (Transitive). (أ) يؤدى إلى (ب) ، و (ب) تؤدى إلى (د) ، و (د) تؤدى إلى (ج). فإذا رصدت المشكلة (ج) فلا تكتفى بالسبب (د) – بل ابحث عن أصل الداء .. أبحث عن "أم القيح".
الفقر ليس مرضا، إنه عرض لمرض. تتبع السببية فيمكن أن تقودك لفساد "عقيدة الحكم" أو "لفساد مؤهلات التطبيق" أو "للجهل". الجهد فى علاج "العرض" هو حرث فى بحر. الماضى (القريب والبعيد) يمثل مستودعا للحقائق والوقائع (المعلومات) يمكن استدعائه للتدليل على نتائج التحليل. الماضى يمثل "مقدمات" لنتائج الحاضر الملموسة – وبإتباع القياس يمكن بسهولة توقع نتائج المستقبل بمقدمات الحاضر.
مئات الآلاف من المقالات والبحوث والدراسات نجحت عبر عقود فى "تشريح" الوضع الراهن وسابقه وسابق سابقه، حتى بات الوضع جليا لا يحتمل التأويل والقال والقيل للعامة قبل النخبويين – ويُستثنى منهم الجاهلون والمنتفعون ومن أغشى الله على أبصارهم وبصيرتهم.
الخطوة الثانية : هى "وضع تصور لحالة مستقبلية مأمولة" قابلة للتحقيق. ماذا نريد أن نكون طبقا للمتاح من موارد وإمكانيات ؟؟؟. لا مانع من الإسراف لتحقيق أهداف بعيدة المدى وإن كانت أحلاما – ولكن ضعها كهدف بعيد بعيد المدى أو غاية سامية.
فصيل من الإسلاميين (كمثال) يحدد "الخلافة" هدفا وغاية. لا بأس . ولكن حدد أهدافها المرحلية. أن تكون حرا فى اختيار عقيدة الدولة أولا – ثم أن تكون إسلاميا كهدف ثان – ثم السعى لتكوين إندماجية أو فيدرالية أو كونفيدرالية بين الدول العربية و/أو الإسلامية كهدف ثالث وهذا يمكن أن يستدعى إحياء "القومية". وستجد أن الخلافة كهدف (عولمى) قد تحقق وإن كان بشكل غير ما سبق.
الخطوة الثالثة : هى تحديد بدائل "آليات الانتقال" من الحالة الراهنة الملعونة إلى الحالة المستقبلية المأمولة. وهو ما يسمونه فى "علوم التخطيط" بالخطط (الأهداف والأهداف المرحلية – الأعمال اللازمة وتتابعها او تقاطعها – الموارد المطلوبة (من يفعل ماذا ..) – التوقيتات الزمنية).
الجهد مطلوب ، وقبل الجهد يجب أن يأتى الإتفاق والتنسيق والترتيب .. وإلا اختزل العمل أخاه. التضارب فى الأهداف (المرحلية) والتضاد فى الأعمال سيجعل الأمة تدور فى حلقة مفرغة ويبقيها فى وضعها الراهن. ومن يدرى .. لعله يعيدها إلى وضع ماضى سابق .. وضع ما قبل التاريخ (!!).
* * * * * * * * * *
ثانيا : أربعة قوى فى المشهد المصرى :
أعمال صناعة الثورة فى مصر (الإصلاح بالتغيير الجذرى) لا تتم بكليتها فى العالم الإفتراضى. هناك العديد من المكونات على أرض الواقع المادى. أصحاب الأقلام المتزنة (المعلنة) التى تسعى للمشاركة. سجالات قانونية ومؤسسية باستخدام المتاح من الهامش الديكورى للدولة. حراك شخصيات وجمعيات فى المحافل الدولية. تحركات واحتجاجات من مجموعة "انتحاريين" معرضين للضرب والمهانة غالبا .. وللقتل أحيانا.
لم يكن الأمر مصادفة أن يظهر الأستاذ "هيكل" فى بدايات العام 2004 (تم الترحيب به فى مقال خاص – "أهلا هيكل مرحبا فى المعمعة" فى يوليو 2004). الأستاذ هيكل فى عقده التاسع لا يبغى مزيدا من المنافع الدنيوية. مشاركته فى أعمال "صناعة الثورة المصرية" جاءت كنوع من "تأنيب الضمير" لابتعاده عن المشاركة كنخبوى لسنوات طوال. ولعلها أيضا تكفيرا عن مساهمته الفاعلة فى انقلاب 15 مايو 1971 لصالح السادات. ولعلها محاولة لطلب الخلاص ولإعداد سندات الدفاع لتقديمها وقت حساب الملكين.
ولم يكن الأمر مصادفة أن يتحرك الدكتور "زويل" سياسيا ومصلحا اجتماعيا (باستخدام المنهجية العلمية) كمصرى المولد والأصل يبغى المشاركة – رغم انه أتهم بكونه مخلب قط فى يد الإدارة الأمريكية (نظرية المؤامرة). وأخيرا وليس أخرا… ظهور "البرادعى" فى الواجهة مطالبا بإصلاحات أولية وطارحا نفسه كرمز "توافقى" لقيادة "الثورة" الهادفة للإصلاح بالتغيير الجذرى .. التغيير الراديكالى.
أنقضى زمن الثورات بشكلها التقليدى – الثورة البلشيفية الدموية – الثورة الفرنسية التى أكلت أصحابها تحت نصل "مس جيلوتين" (أسم المقصلة). الثورة المصرية التى بدأت بيضاء والعمل على إرساء العدالة الاجتماعية (كنظام اوتوقراطى مستبد عادل) ثم انتهت سوداء .. لا حرية سياسية ولا عدالة اجتماعية.
المشهد المصرى يحوى أربعة قوى رئيسية متباينة. القوة الأولى هى السلطة الحاكمة. والقوة الثانية هى عناصر الثورة "الافتراضية" (أو الأقرب للافتراضية). القوة الثالثة هى ما أشار إليها الأستاذ "فهمى هويدى" نقلا عن مصادر إسرائيلية وهى القوة الأمريكية برأس حربة اسمها "قوة التدخل السريع". أما القوة الرابعة فهى "الكتلة الصامتة" – كتلة العجز المكتسب – كتلة صمت الحملان.
* * * * * * * * * *
ثالثا: حقيقة قوة التدخل السريع الأمريكية :
معلومة تاريخية جديرة بالاهتمام والتحليل يمكنها أن تفسر لنا ظهور اسم "قوة التدخل السريع الأمريكية" - التى وردت فى عدة مناسبات كان أخيرها مقال للأستاذ "فهمى هويدى" نقلا عن شخصية قيادية إسرائيلية فى خطاب علنى. مهام هذه القوة هى حماية النظام المصرى الحاكم الحالى ضد أى محاولة لزعزعته بالقوة.
المعلومة وردت فى عدة مراجع سياسية. منها مذكرات "هنرى كيسنجر" المنشورة بعنوان "سنوات القلق". ومنها كتب للأستاذ "هيكل" – كتاب "السلاح والسياسة" ، وكتاب " المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل ، الجزء الثاني" .
المعلومة هى "قيام الرئيس الأسبق "أنور السادات" بطلب "تعهد صريح" موثق من الولايات المتحدة بتحمل مسئولية أمنه وأمانه – تضمنتها الملاحق السرية لاتفاقية فك الارتباط الأول. وقد تم تقديم الطلب طبقا لما ذكره "كيسنجر" فى 7 نوفمبر 1973. وبالفعل قامت الولايات المتحدة ببناء آلية نظامية متكاملة لتنفيذ هذا التعهد. ليس فقط من منظومة الاستخبارات المركزية (سى أى إيه) ولكن أيضا من منظومة (الإف بى أى). والأخيرة تبدو غريبة لتخصصها فى الشئون الداخلية للولايات المتحدة الأمريكية (تمثل مباحث أمن الدولة فى مصر). وكونها مهتمة بالشئون المصرية فهذا له دلالات غير طيبة.
لم تتوفر معلومات مؤكدة عن انتهاء هذا الاتفاق بسقوط السادات أم لا. والشواهد تؤكد أن الإدارة المصرية الحالية قد ورثت كافة اتفاقات الإدارة السابقة.
القوة الأمريكية تحسب ظاهريا بجانب قوة السلطة الحاكمة الحالية. ولكن من قراءة السوابق التاريخية للسياسة الأمريكية يمكن القول بأن هذا الدعم ليس مضمونا تماما – بل يخضع لحسابات متغيرة، عمادها النسبة المئوية بين الفائدة العائدة على الولايات المتحدة من هذا الدعم، وبين التكلفة. إنه حساب "البيزنس" – حساب السياسات النفعية البرجماتية. لا صداقة دائمة .. بل مصالح دائمة.
لذا ، فالحديث عن انحسار الخيار بين توريث "جمال مبارك" وبين تعيين او تولية ممثل "المؤسسة العسكرية" – لم يعد خيارا حصريا (!!).
* * * * * * * * * *
رابعا: العجز المكتسب وصمت الحملان :
إنها السمات الأساسية للكتلة الصامتة المصرية التى تسعى كافة القوى المتصارعة على استقطابها والفوز بها. سمة "العجز المكتسب" و "صمت الحملان".
"العجز المكتسب" هى ظاهرة سيكوباتية (فى علم النفس) وسلوكية (فى علوم السلوكيات) تلخص تأقلم وتكيف الإنسان المقيد الحرية على التعايش مع عجز وألم القيد والحبس والسجن. التجربة المعملية تمت على كلبين. تم حبس الأول وترك الثانى حر الحركة. ثم إحداث الم بصاعقة كهربية على الكلبين. فر الكلب الحر الحركة كرد فعل طبيعى. أما الثانى فحاول الفرار ولكن قيود الحبس منعته – فاستسلم بعد عدة محاولات فاشلة. تكررت التجربة مرات ومرات. فى مرحلة لاحقة أخرج الكلب السجين ليكون له حرية التحرك – وعندما صعق بالكهرباء صرخ بأنين معتاد عليه .. ولكن لم يفر .. بقى مكانه (!!) – متعايشا مع الألم .. متكيفا مع الذل والقهر. إنه العجز المكتسب.
الفارق بين التجربة المعملية والحالة المصرية أن القيود والحبس والسجن ليس ماديا بالمطلق (!!).
أما "صمت الحملان" فقد وردت فى رواية أمريكية (تأتى تحت تصنيف "علم النفس الإجرامى") وتحولت لاحقا لفيلم سينمائى شهير بنفس الاسم. جاء فى الرواية يصف مشهدا لبطلته: (( نهضت من نومها على صوت كصراخ طفل صغير. تقصت الأمر فى الحظيرة المجاورة. إنه موسم الربيع .. موسم ذبح الحملان (صغير الشاة). القطعان متراصة كل فى عالمه. منهم من يجتر حشائش سبق أكلها. ومنهم من وجد فى العشب الأخضر المبلل بالندى وليمة ترطب جوفه. ومنهم من يقف ساكنا يحملق فى المجهول. يأتى الجزارون (القصابون) لينتزعوا مجموعة من القطيع إلى مسلخ مجاور. ما أن يقترب نصل السكين من عنق الحمل يدرك أنها النهاية .. فيصرخ فى خفوت أقرب للمكبوت. صرخة الموت تنتقل لباقى القطيع. من المؤكد أنهم فهموها لأنها لغتهم .. ولكنهم فى حال "عجز مكتسب". فهذا يستمر فى الاجترار .. وهذا يبحث عن متعة أخيرة فى بعض حشائش مبللة بالندى .. وذاك مازال يحملق فى المجهول.)).
* * * * * * * * * *
خامسا وأخيرا: الإصلاح ليس لنا .. الإصلاح لأطفالنا وأحفادنا .
صورة قد لا تظهر فى المقال. طفلة مصرية فى الخامسة رثة الثياب يعلوها القذارة تجلس على كوم من القمامة. يدها اليسرى تخفى وجهها أو كأنها فى غفوة. يدها اليمنى تحتضن طفل صغير فى الثانية من عمره ألقى برأسه على فخذها. الطفل مثل شقيقته رث الثياب – يلبس جلباب قذر يكشف أفخاذه. ينظر إلى كاميرا المصور نظرة بين الفضولية والمعاتبة.
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }التين4.
عظمة الخالق تظهر فى آيات خلقه ومنها الأطفال. وجوه بريئة. جلد أملس ناعم لم تدنسه قذارة العيش وعوز الفقر، أكف وأرجل تقبلها الشفاه تحية وتبركا. قلوب نقية فطرية لا تعرف كذبا ولا تضمر أثما. عيون فضولية ونظرات عتاب . عجز طبيعى واعتماد على الغير (أولياء الأمر وأولى الأمر). مصير مجهول معلق فى أيادى الآخرين .. أيادى الفاسدين .. وايادى العاجزين.
هؤلاء لا ذنب لهم سوى أنهم أبناء .. لا ذنب لهم سوى أنهم أحفاد. أما الشيوخ والرجال والشباب فهم البالغون العاقلون …هم العاجزون الصامتون … هم الملامون على ما يعمهون.
يُلام الشيوخ على أرث الماضى. ويُلام الرجال على العجز الحاضر. ويُلام الشباب على سوء قراءة المستقبل.
فإلى أطفالنا ضحايا عجزنا وصمتنا وقصورنا وتقصيرنا ، إلى أبناء وأحفاد لم يخرجوا من أجسادنا وأحشائنا بل ولدوا من ضمائرنا وقلوبنا … إليهم هذا الإصلاح المنشود
ــــــــــــــــــ

