31/03/2010

د / ممدوح المنير :

فى بلاد الواق واق  !! ، جلس الضابط  محمود عزيز ، ينفس دخان سيجاره فى تلذذ و هو يراقب حلقات الدخان المتصاعد أمام عينه حتى تتلاشى أمام نسمات الهواء البارد القادم من المكيف .
كان فى حالة إنتشاء و شعور طاغى بالنشوة  بدت عليه و هو يرفع قدميه على حافة مكتبه ، و يؤرجح كرسيه الذى طالما حلم بالوصول إليه ، لم يكن يصدق أن تتم ترقيته أخيرا و يصل إلى هذا المنصب الأمنى الرفيع .
 أخذ يتطلع فى فاصل من أحلام اليقظة إلى حياته الجديدة إنه يومه الأول فى منصبه الجديد ، لقد إستعد له جيدا ،  نظارات قاتمة اللون لإضفاء طابع من الغموض و الرهبة  ، سيارة فارهة بزجاج فاميه لإضافة المزيد من الإثارة و الأهمية على راكبها ، نمر سوداء لتجنب إزعاج  دوريات المرور ، طقم بدل جديدة تناسب أهمية منصبه الجديد .
فجأة وهو على هذا الحال رن جرس الهاتف بجواره فانتبه من احلامه و كاد يسقط من على مقعده الذى  يؤرجحه ، التقط السماعة سريعا ، فإذا به رئيسه فى العمل يقول له ( صباح الخير يا محمود ، مبسوط يا محمود ، شد حيلك عاوزك تكون نموذج مشرف ، إنت لسه مستقبلك قدامك ) ، شعر محمود بسعادة غامرة تجتاحه من كلمات رئيسه و أخذ يشكره عليها و يقول له (  إحنا تحت أمر سعادتك ، إن شاء الله  أرفع راسك أكتر ما هى مرفوعة ، ده شرف كبير لينا نشتغل تحت أمرك ) إنتهى الحوار سريعا مع رئيسه ، لكن تأثير المكالمة كان طاغيا عليه ، كاد أن يقفز من على الأرض من شدة الفرح  .
وهو فى هذه الحالة رن الهاتف مرة أخرى فجاءه صوت ضابط فى رتبة أقل يقول له ( محمود بيه ، فى مظاهرة عملينها العيال بتوع المعارضة فى الميدان ضد الحكومة ، أوامرك ؟) ، استشاط  غاضبا لإزعاجه بهذا الخبر الذى أخرجه من النشوة التى كان فيها  ، لكنه تمالك نفسه  و قال للظابط و هو يضفى على صوته لهجة و قورة تناسب مقامه الجديد ( ابعت قوات مكافة الشغب ، دلوقتى وامنعوهم من الحركة احسن عددهم يزيد ، بسرعة مش عاوز تضييع وقت ، و لو حد
من ولاد ( .... ) زودها شوية اعتقلوه فورا ، و بلغنى بالتفاصيل أول بأول ) .

شعر بقلق بالغ  يعتريه ، و أخذ يكلم نفسه ، إنه يومه الأول فى منصبه الجديد ، و  تحدث هذه المشكلة ، لا يمكن  أن أفشل فى إدارة هذا الموضوع ، أخذ يقطع الحجرة ذهابا و إيابا ، طلب كوبا من القهوة ، سرعان ما جاءته ، أخذ يشرب السيجارة الواحدة تلو الأخرى ، و لم ينجح المكيف فى إخفاء الدخان الذى ملأ الغرفة ، لم يعد ينتظر أن يتصل بيه الضابط بل سارع هو للإتصال به ، سأله عن الجديد قال له الضابط مرتبكا ( القوات ) فى طريقها إلى المكان يا محمود بيه ، إنفجر فى وجهه قائلا ، القوات لا تزال فى الطريق ، و أخذ يسب و يلعن بشتائم و ألفاظ نابية أصبحت إعتيادية فى عالمه ، مستنكرا تأخر القوات فى الوصول للميدان ، رن جرس الهاتف الآخر فإذا به رئيسه فى العمل ، أقفل السماعة فى وجه الضابط ، و بدأ يحادث رئيسه فى ليونه ووداعه من جديد ، لكن لهجة رئيسه لم تتجاوب مع و داعته و كان باديا عليه الجدية و هو يقول ( فيه ايه يا محمود فى تقارير وصلتنى إن فى مظاهرة فى الميدان من ساعة و لسه لم يتم السيطرة عليها ، إنت كده هتغير فكرتى عنك ) شعر محمود بقلق و خوف هائل ، و هو يرد على رئيسه فى فزع  و يرمى بالمسئولية على الضابط و القوات التى لا تزال فى الطريق ) جاءه صوت رئيسه قاطعا كلامه ( أول درس ليك و أتمنى ألا يكون الأخير كذلك !! ، نحن لا نقبل الأعذار أو المبررات إحنا بنفكر بس فى النتائج و بنقيّم على أساسها  ، هاتصل بيك كمان شوية وشوفك عملت إيه ) .

جن جنونه،  خرج من مكتبه مسرعا ، غير عابىء بمن يسلم عليه ، إستقل السيارة متوجها إلى الميدان ليشاهد  الأمر على طبيعته ، كاد أن يصطدم بأكثر من سيارة  و هو فى طريقه مضطرب القلب ، واجس النفس ، تجاوز كل إشارت المرور ، شاهد القوات و هى فى طريقها إلى الميدان ، إحمر وجه أكثر حتى تجاوز سيارت الأمن ووصل قبلهم إلى موقع المظاهرة ، كان  المتظاهرين قد أنهوا وقفتهم وانصرفوا ، فاستولى عليه الخوف ، ما الذى حدث ؟! ، هل إنتهت المظاهرة هكذا ببساطة دون تدخل من الأمن ؟ ، شعر بيأس بالغ يستولى عليه ، ماذا سيقول لرئيسه ؟، المظاهرة إنتهت بدون ردع !! ، هل سيكون يومه الأول فى العمل هو يومه الأخير ؟! ، أخذت الأفكار السوداء تجتاحه و بينما هو على هذه الحالة ، إستيقظ شيطانه و قال له إنه مستقبلك ، جاهك ، سلطانك ، إياك أن تضيعهم ، فكر فى حل فأنت أذكى منى فى ذلك !! .

أخذ ينظر من زجاج سيارته و هو يتلفت يمينا و يسرة يبحث عن حل ينقذ به مستقبله ، فإذا بفكرة شيطانية تلمع أمام عينيه ، خرج من السيارة مهرولا ، توجه إلى أحد سيارات الأجرة طلب من سائقها النزول ، عرف نفسه له ، شعر السائق بالخوف يجتاحه ، شعر محمود بالرضا من حالة الخوف التى أصابت السائق ، قال له فى لهجة مخيفة فزع لها السائق ( أنا عاوزك تملى عربيتك ناس دلوقتى ، شوف أى خط مواصلات زحمة و نادى على الناس علشان توصلهم هناك ، و أنا همشى قدامك بعربيتى و أنتى خلفى ،  تفضل ما شى ورايا  لغاية المكان  اللى أنا رايحه ، بسرعة فورا قبل ما تروح ورا الشمس ) .

  إنطلق السائق فزعا ينادى على الركاب و ينفذ التعليمات و الركاب تتصارع فيما بينها على من يحجز مقعد بعد أن أعياهم الوقوف ، و أخذت المشادات تحدث بينهم ، و السائق يسب و يلعن و يأمرهم بالإسراع ، حتى أمتلأت السيارة فوق طاقتها بكثير ، و أحمد يراقب المشهد من بعيد  فانشرح صدره ، و أخذ يتحرك بسيارته وسيارة الأجرة تسير خلفه حتى إنحرف عن الطريق متجها إلى مقر عمله الجديد ، فانحرفت سيارة الأجرة خلفه ، شعر ركاب السيارة بالدهشة من إنحراف خط السير ، أخذ كل واحد من الركاب يتطلع فى عين الآخر ، منتظرا أن يسأل أحدهم السائق عن  سبب تغيير خط السير المعتاد ، لكن ظل الصمت سيد الموقف ، حتى وجدوا أنفسهم فجأة يخرجوا عن الطريق الرئيسى  و يتجهوا إلى أحد المبانى ذات الأسوار العالية ، عندها بدؤوا  فقط  فى الصياح بالسائق ( إنت رايح بينا على فين ؟! ) ، فقال لهم السائق فى سخرية ممتزجة بالغضب و السخط ، لسه فاكرين تسألوا إحنا راحين على فين ، على داهية إن شاء الله .

دخل محمود إلى ساحة المبنى ، نادى على  عساكر الحراسة بصوت عالى تحلقوا حوله بسرعة ، أشار  بيده إلى سيارة الأجرة ، قائلا لهم ، إعتقلوا هؤلاء المجرمين مثيرى الشغب بسرعة ، فاندفع العساكر يحيطوا بالسيارة و فوهات بنادقهم ترفع فى وجه الركاب و يأمروهم بالخروج و رفع أيديهم ، و هم فى حالة من الرعب و الصدمة ، جعلت بعضهم يبلل بنطاله و قد ألجمت الدهشة و الخوف ألسنتهم ، جلس السائق فى مكانه مطمئنا  ، فإذا بأحد العساكر يلكزه بعنف بطرف بندقيته و يأمره بالنزول فصرخ فى الجندى ، أنا معاكم ، فالتفت العسكرى إلى محمود بيه ، ينتظر إشارته ، فقال له ( ده أول كلب تعتقله !! ) فأخذ الرجل يصيح و يبكى فلكزة العسكرى مرة أخرى  حتى سقط على الأرض .

فجأة رن جرس الهاتف النقال ، فتح محمود بيه الخط فإذا به يجد رئيسه يسأله دون سلام  ( عملت إيه ) ، فرد عليه مسرعا ، كله تمام يا باشا ، إحنا حاصرنا العيال بتوع المظاهرة و اعتقالنا عدد كبير منهم دلوقتى !!   ، فجاءه رد رئيسه : ايوه كده يا محمود هو ده الشغل ، مستقبلك كان على المحك ، فرد عليه محمود بيه فرحا ، وسط صراخ و نحيب الركاب من حوله ، إطمئن ياباشا مصلحة البلد فوق كل إعتبار ، و كله تمام يا فندم !! .

ــــــــــــــــــــــــــــــ
 * كاتب و باحث