10/12/2009
عبادة السيد نوح
على سفوح التلال الخضراء وأمام بحر مرمرة الساحر يعتقد البعض أن إسطنبول عاصمة تركيا باعتبارها أهم مركز تجاري وبشري في البلاد، فالقصور والقلاع القديمة المنتشرة في كل مكان والمساجد العتيقة التي بُنيت في عهد الفتوحات الإسلامية تثبت أنها رأس المال الفكري والثقافي لتركيا.
وبدعوة كريمة من مجلة "حراء" التركية الناطقة باللغة العربية زرنا هذه المدينة الخلابة بصحبة وفدٍ من إدارة التحرير لمدة خمسة أيام ومترسخ لدينا صورة ذهنية سلبية عن تركيا العلمانية، ولكن كانت المفاجأة مذهلة والوقائع تقلع القلب اندهاشًا وتعجبًا لما بصرته العيون من تركيا العثمانية.. تركيا الخلافة.. تركيا الفاتح.. تركيا عبد الحميد.
فلم نسمع عن أناس وهبوا أنفسهم وأموالهم منذ أربعين عامًا لله وينكرون ذواتهم ولا يعترفون بذلك.. أناس اتخذوا العمل منهاجًا لخدمة الإنسانية.. أناس آثروا البذل والعطاء عن التنظير والشخصانية والتغني بالشعارات، ولم نكن نعرف مؤسس أكبر تجمع إسلامي في تركيا محمد فتح الله كولن- أمدَّ الله في عمره ونفع به وجعله زخرًا للإسلام والمسلمين- بالرغم من اهتمامنا بشئون المسلمين في الخارج.
رجال في سن الشباب وتجار شعارهم البذل وعلامة ملهم.. ثالوث النهضة الفكرية والثقافية والعلمية في تركيا الجريحة منذ سقوط الخلافة على يد أتاتورك أوائل القرن الماضي، فما رأيناه حقًّا يجعلنا نتيقن أن الخلافة ستعود من بلاد الأناضول مرةً أخرى بإذن الله بالرغم من سيطرة صناديد العلمانية المتمصلحون على المقدرات الرئيسة في البلد؛ ذلك لأنهم استلهموا من السيرة النبوية كيفية تغيير الواقع المزري بالتدريج من خلال التربية والبناء والتعليم بعيدًا عن السياسة ورفع الشعارات الإسلامية، والتغني بالصور الخارجية لمظاهرنا دونما النظر لحجم إنتاجنا العملي.
وعلى الرغم من إيمان هؤلاء بأن المبادئ الإسلامية ثابتة لا تتغير كما أُنزلت في القرآن، إلا أنهم على قناعةٍ أنها لا بد أن تتكيف هذه الأصول مع ظروف كل عصر، وأن يتم تفسيرها من جديد لملائمة ذلك العصر، كما يرون أن توفر العلوم الحديثة السّبل لفهم الذات الإلهية بالعقل عن طريق البحث في المخلوقات، ويقولون إن المجتمع لا يمكن أن يتغير إلا إذا تغيَّر الفرد، والسبيل إلى ذلك هو العلم؛ لذا فشعار كولن في ذلك هو: ابنوا مدارس جديدة بدلاً من المساجد!.
وترى هذه المجموعة الربانية أن العمل مفتاح الشفرة للتغيير الإيجابي، فيقول كولن في كتاب "أركان الدين الإسلامي": سوف نُثَاب بالنجاح على جَلَدنا وصبرنا وسنعاقب على كَسلنا بقلّة ذات اليد".
فكرم الضيافة وحرارة الاستقبال كانت موجودة منذ أن وطئت أقدامنا تركيا، حتى إننا أُحرجنا من التمادي في الضيافة، خاصةً من المربي مصطفى أوزجان، ورئيس تحرير "حراء" نوزاد صواش، بالإضافة إلى جمال تُرك مدير أكاديمية العلوم.
وبدأنا الرحلة بزيارة مجلة "حراء" التي تتبع أكاديمية (قايناق) للعلوم التي أتاحت لنا الفرصة للتعرف على ثمرة مباركة ذات رسالة إسلامية ترتفع فوق القواطع والفواصل وتخاطب كل المسلمين وتعتني بالعلوم الطبيعية والإنسانية والاجتماعية، وتجد أنها قرآنية الصبغة، عَصْريَّة الصياغة؛ جامعة بين الأصالة والمعاصرة، بمنهجية وسطية؛ تجاهد في سبيل التكامل؛ بعيدًا عن الإفراط والتفريط.
فالأخ "صواش" أكد أن الهدف الرئيس من هذه المجلة دعوة أصحاب العقول النيرة والقلوب المستضيئة في العالم العربي والإسلامي إلى أن يودعوا صفحاتها كلمات من أقلامهم حتى تكون ملتقى للتقارب والتآلف، وجسرًا للمحبة والتعارف؛ تستوحي المعاني العظيمة في رسم الطريق إلى المعرفة الإيمانية التي تريدها لمسلم هذا اليوم.
ثم انتقلنا إلى التعرف إلى إحدى مدارس (الفاتح) التي بهرتنا بجمعها ما بين حداثة البنيان والإبداع التربوي والتعليمي بأسلوب فريد من نوعه- قلما تجده في مجتمعاتنا العربية- ما شأنه التفكير في مراجعة منظومتنا التعليمية مرةً أخرى، فأوائل الثانوية دائمًا من هذه حتى باتت معلمًا ثقافيًّا وتعليميًّا تتهافت عليه الأسر التركية لتعليم أبنائها من مختلف الأطياف، مع الأخذ في الاعتبار أنه يوجد على شاكلة هذه المدرسة أكثر من 1000 مدرسة موزعين في محافظات البلد المختلفة، وفي دول البلقان.
وفي اليوم التالي ذهبنا إلى "وقف الصحفيين والكتاب" الذي أنشأ العام 1994م لنتعرف على تجربة جديدة في جمع النخبة السياسية والثقافية والدينية من مختلف المشارب والأطياف على طاولة الحوار لمناقشة القضايا الحساسة والخطيرة للوصول إلى رؤى توافقية.
كذلك تعرفنا على مؤسسة صحفية عملاقة تعتبر رقم واحد في الصحافة اليومية هناك تسمى "زمان"، بالإضافة إلى أخواتها من وكالة "جيهان" للأنباء ومجلة "اكسيون" الإخبارية، فالجدية في العمل والتضحية في البذل والإدراة الحديثة والبسيطة والالتزام أبرز معالم هذا الصرح العجيب.
ثم تعرفنا على مؤسسة تلفزيونية مميزة تسمى "stv"، وهي تتألف من ست قنوات تلفزيونية رائدة في تركيا وقناة باللغة الانجليزية.
وأخيرًا زرنا جامعة الفاتح العريقة، والتي تعد أحد أفضل 10 جامعات في تركيا اليوم، ويكفي أنها تجمع ما بين الأصالة والعصرية.
إن أبرز ما يمكن الاستفادة من هذه التجربة الرائعة هو الجدية والتضحية في العمل، وضخامة الكوادر المؤهلة علميًّا وروحانيًّا، والعمل المؤسسي المنظم، وتقديم العمل على التنظير؛ لتؤكد تركيا مرةً أخرى للعالم أنها عائدة بقوة لإحياء روح الإسلام في ربوع الإنسانية، والله ولي التوفيق

