09/12/2009

عبد الباري عطوان :

نجحت الضغوط الاسرائيلية، المدعومة من دول مثل فرنسا وهولندا والمانيا، في احباط مشروع القرار المقدم الى وزراء خارجية الدول الاوروبية من السويد الذي ينص على ان القدس الشرقية هي عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة، واستبداله بقرار غامض مائع مغرق في عموميته، ينص على ان القدس المحتلة عاصمة للدولتين الفلسطينية والاسرائيلية.

النجاح الاسرائيلي جاء بسبب غياب اي تحرك عربي فاعل في اوساط الاتحاد الاوروبي، ليس فقط من اجل دعم القرار السويدي، وانما ايضا لدفع اوروبا لمواقف اكثر حزما في مواجهة الممارسات الاسرائيلية المكثفة لتهويد المدينة المقدسة، وهدم بيوت اهلها فوق رؤوسهم، والزج بهم في العراء، ناهيك عن استمرارها في خنق قطاع غزة، وتجويع مليون ونصف المليون فلسطيني.
اسرائيل تضغط على الاوروبيين والامريكان، والحكومات العربية تضغط على الفلسطينيين للتخلي عن عنادهم، والقبول بالتوجيهات الامريكية بالعودة الى المفاوضات دون شرط تجميد الاستيطان.

في الماضي كانت الحكومات العربية تدفع ثمن وقوفها الى جانب الثوابت الفلسطينية، وعدم الاعتراف باسرائيل، حصارا امريكيا، وعقوبات اقتصادية، واحيانا اعتداءات وقصفاً جوياً (الهجوم الامريكي على ليبيا). الان تستخدم الحكومات العربية قضية فلسطين لتحقيق مصالح محلية، وحل مشاكلها مع الولايات المتحدة والعالم الغربي، عبر بوابة التنازلات، والتقدم بمبادرات سلام للخروج من محنة احداث الحادي عشر من ايلول/سبتمبر، مثلما فعلت المملكة العربية السعودية.

والموقف الفلسطيني ليس افضل حالا من موقف الحكومات العربية، بل لا نبالغ اذا قلنا انه اكثر سوءا، فالبعض يريد ان يحصر النضال الفلسطيني في الذهاب الى الامم المتحدة ومجلس امنها لاستصدار قرار بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وحدودها، وكأنه لا يوجد اكثر من 65 قرارا صدرت بهذا الخصوص، من بينها قرارات التقسيم وحق العودة، والبعض الآخر يريد الكفاح المسلح دون ان يمارسه، وثالث يريد حل السلطة، ورابع يتحدث عن تفجير انتفاضة، كلها 'جعجعة بدون طحن' للأسف الشديد.
' ' '
الرئيس الفلسطيني محمود عباس اكد يوم امس اثناء لقائه برجال الصحافة في لبنان انه جاد في رفضه الترشح لأي انتخابات رئاسية قادمة، وقال انه لا يناور او يمثل، ونحن نصدقه، ولكنه لم يقل لنا متى ستجرى هذه الانتخابات بعد عام..عامين..عشرة، ووفق اية ظروف، وهل سيستمر رئيس تصريف اعمال الى الابد، وما هي خياراته المقبلة؟

مجلة 'التايم' الامريكية نقلت عن الرئيس عباس في عددها الاخير في زاويتها الاسبوعية 'اقتباسات' قوله للامريكان والاوروبيين 'حان الوقت لأن تجدوا لكم حمارا آخر'، في اشارة الى رغبته في الانسحاب من الرئاسة.

المجلة لم تقل لنا اين قال الرئيس عباس هذه العبارة، وفي اي مناسبة، ولكننا لا نستبعد قوله لها، فالرجل يعيش حالة من الاحباط غير مسبوقة بعد وصول خياراته السلمية الى طريق مسدود، وتنكر الامريكان والاسرائيليين والعرب له.
احد المقربين من الرئيس عباس اكد لنا انه قرر عدم ترشيح نفسه اثر مواجهته ثلاثة مواقف مهينة على الصعيدين السياسي والشخصي:

الاول: تعاطي السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الامريكية معه بأسلوب وقح، اثناء لقائها معه في مدينة ابوظبي في الشهر الماضي، ومطالبتها له بالعودة الى مائدة المفاوضات مع اسرائيل دون تجميد حكومة بنيامين نتنياهو للاستيطان، وتأكيدها على هذه الوقاحة والازدراء التام بردة فعلها الاولية والسريعة على اعلانه عدم ترشيح نفسه في الانتخابات، باعرابها عن الاستعداد للتعاطي معه في اي موقع آخر يختاره.

الثاني: اصدار الحكومة المصرية تصريحات على لسان السيد احمد ابو الغيط وزير الخارجية ترحب فيها بعودة المفاوضات وفق مرجعية تؤكد على قضايا الحل النهائي مثل القدس واللاجئين والمستوطنات والمياه والحدود. هذا الموقف المصري شكل صدمة بالنسبة الى الرئيس عباس، وتحولت هذه الصدمة الى جرح نفسي غائر عندما قال له السيد ابو الغيط، في لقاء ساده العتاب، ان اصرارك على رفض العودة الى المفاوضات دون تجميد الاستيطان تجاوباً مع الطلب الامريكي يعني 'انك انتهيت يا سيد عباس'.
الثالث: ذهاب أحد احفاد الرئيس عباس اليه متكدراً باكياً، ومطالباً بمغادرة العائلة رام الله فوراً الى اي بلد آخر، وعندما سأل الرئيس عباس حفيده عن السبب قال له ان زملاءه في المدرسة يعايرونه بأن جده (اي الرئيس عباس) 'خائن وباع فلسطين'، فكانت هـــــذه الكلمات الاكثر تأثيراً في نفسيته، وزادت من عزمه على اتخاذ قرار بعدم الترشح، والانسحاب من الحياة السياسية.

هذه الحالة الفلسطينية المزرية، ونظيرتها العربية الرسمية الراكدة اللامبالية، هي التي تعزز الموقــــف الاسرائيلي دولياً، رغم وجود حكومة يمينية متطرفة باتت تصرفاتها تضع العالم الغربي في حرج كبير، وتهدد مصالحه في العالمين العربي والاسلامي، بتشجيع التطرف في الضفة الاخرى.

اوروبا لا تخسر شيئاً، ولن تغضب اي عاصمة عربية اذا ما عدلت المشروع السويدي، واصدرت كلمات انشائية حول ضرورة رفع الحصار عن قطاع غزة، ووقف بناء المستوطنات وهدم البيوت في القدس المحتلة، ولكنها تخسر اذا ما فعلت العكس واتخذت اجراءات عقابية ضد اسرائيل، فهناك قوى يهودية واسرائيلية ستحرض ضد حكوماتها.

المصالح الاوروبية جميعها في البلاد العربية، وتكفي الاشارة الى ان ازمة امارة دبي المالية الاخيرة احدثت زلزالاً في البورصات الاوروبية والقطاعات المصرفية، ويعلم الله ماذا كان سيحدث لو جرى التلويح بتجميد الاستثمارات الاوروبية الاخرى في دول خليجية مثل قطر والسعودية وابوظبي وسلطنة عمان.

اوروبا تستفيد منا اسواقاً واستثمارات ووظائف (150 الف بريطاني يعملون في دبي وحدها)، وتضرب بنا وبمصالحنا عرض الحائط، ولا تعيرنا اهتماماً او احتراماً، بينما ترتعد فرائص حكوماتها امام ليبرمان ونتنياهو ومن لف لفهما.
مماحكات كروية بين مشجعين مهووسين اثارت اهتماماً غير مسبوق في ثلاث دول تشكل في مجموع سكانها نصف سكان العالم العربي (الجزائر ومصر والسودان)، بينما لم نر اي تحرك، شعبي او رسمي، تجاه الاعتداءات الاسرائيلية على المسجد الاقصى (الذي يهم ملياراً ونصف المليار مسلم) ومحاولة المستوطنين اقامة كنيس يهودي في باحته.

الاوروبيون معذورون اذا ما رضخوا للابتزاز الاسرائيلي، واستجابوا لطلب نتنياهو بتعديل مشروع القرار السويدي، ومعذورون اكثر اذا منعوا بناء المآذن بل وحتى المساجد، وزادوا من احتقارهم للعرب والمسلمين، فنحن نستحق اذلالاً اكثر من ذلك.

ـــــــــــــــــــ

رئيس تحرير القدس العربي