23/11/2009
أ.د. محمد السيد حبيب
الأخ الحبيب ..
تحية من عند الله مباركة طيبة ... فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد ؛
فقد ذكرت فى رسالتى الماضية أنى أحيانا ما كنت أقف دامعا – تأثرا من شدة الفرح – أمام كلمات رستم، قائد الفرس الشهير : "أحرق عمر كبدى، أحرق الله كبده"، وفى رسالتى هذه أقول: إنى كثيرا ما أقف دامعا – تأثرا أيضا ولكن من شدة الحزن ولما يتملكنى من ألم وشجن – حين تستدعى الذاكرة حادثة استشهاد عمر – رضى الله عنه – على يد فيروز أبى لؤلؤة، هذا الفارسى المجوسى .. والملاحظ أن هذا فارسى وذاك فارسى .. لكن شتان بين الشخصيتين، وبين الموقفين، ولئن وقع استشهاد عمر فى ساحة حرب لهان الأمر، لكنّ استشهاده كان غيلة .. وهو يصلى بالناس إماما، أعزلا من أى سلاح، اللهم إلا سلاح الإيمان فى لحظات خشوع وخضوع بين يدى مولاه .
هذا الموقف يحتاج إلى أن نتأمله وأن نمعن النظر فيه طويلا ، إذ لا يخفى على أى لبيب عاقل .. أن الفتوحات التى جرت فى عهد عمر أوغرت صدور كثيرين، حاقدين وكارهين للإسلام .. وكان لابد من الحيطة والحذر وعدم الاطمئنان لردود الأفعال التى يمكن أن تأتى على يد هذا الصنف الموتور من البشر ..
ومن عجيب الأمر أن يُستقدم بعض هؤلاء إلى بلاد الإسلام، خاصة عاصمة الخلافة، حيث القيادة العليا للدولة وأكابر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم . لقد حذّر عمر – لفطنته وذكائه – منهم وكره استقدامهم واستخدامهم، لكن البعض لم يستمع .. كان هذا العنصر الدخيل يتطلب مراقبة ورصدا دقيقا لكل تحركاته، لكن بعضا من المسلمين قد تعتريه كما يعترى البشر غفلة وقد يركن للاطمئنان – ولو لوقت – فيفقد حيطته وحذره ويعرض البلاد والعباد لخطر جسيم . إن القيادة العليا هى رأس الدولة ورمزها، وهى بالنسبة للرعية بمثابة الرأس للجسد، وسقوطها اهتزاز للدولة كلها، لذا لابد أن تحاط بحراسة يقظة واعية ومدربة .. نعم لا يغنى حذر من قدر، لكن ترك الأخذ بالأسباب معصية كما يقول العلماء . وإذا كان المجتمع المسلم منفتحًا بطبيعته، غير منغلق على نفسه، يتعامل مع كل فئات البشر، فقد يتسلق عبر الثغور من يفسد، أو يزرع الفتن مستغلا ثغرة هنا أو خللا هناك، خاصة أن المجتمع فيه قوى الإيمان وضعيفه، اليقظ والنائم، الواعى وصاحب الغفلة وهكذا ..
فى العصور الحديثة صارت هناك أنواع أخرى من الغزو – غير تلك التى عهدها العالم قديما - مثل الغزو الفكرى والثقافى والأخلاقى بهدف الانقضاض على المجتمعات من داخلها من قِبَل أعدائها وخصومها ، وذلك بتغيير هويتها وهدم الروح المعنوية لديها، وبالتالى السيطرة عليها .. ولم تعد المسألة أفرادا، ولكن يتولى كبرها منظمات ودول كبيرة بكل ما تملك من أسلحة وأدوات، ظاهرة وخفية، خشنة وناعمة . وفى ظل ثورة المعلومات والاتصالات والسماوات المفتوحة، إنهارت الخصوصية، وصارت أسرار كثيرة على مستوى الأفراد والجماعات والدول متاحة ومباحة، الأمر الذى سهل سيطرة وهيمنة الدول الكبرى علينا لصالح مشروعها وأجندتها.
الأخ الحبيب ..
من القواعد الثابتة والمستقرة إسلاميا وعند المشتغلين بعلوم الحضارات "أن نبل الهدف يجب أن يواكبه شرف الوسيلة"، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع المسلمين أو أبناء الوطن الواحد، وإلا كانت ميكيافيلية بغيضة تبيح للأفراد والجماعات والنظم استخدام شتى الوسائل الهدامة واللاأخلاقية للنيل من الخصوم، أو الوصول إلى المناصب، أو تحقيق ما تريد من أهداف، أيًا كانت هذه الأهداف، وقديما قال عمر رضى الله عنه "لست بالخبّ، والخب لا يخدعنى" والخِبُّ أو الخَبُّ هو المخادع والغاشّ، وفى الحديث : لا يدخل الجنة خبّ ولا خائن" فليس عمر بمخادع ولا غاش، لكن هذين الصنفين من البشر – مع ما يملكان من حيل وأدوات قد تخيل على بعض أذكياء الناس – يستحيل عليهما أن يخدعا أو يغشا شخصا كعمر، فهو الذكى، الحكيم، العاقل، اللبيب، ثم قبل ذلك وبعده هو الفطن .. وهذه إحدى مزاياه الكبرى، إضافة إلى فراسته وكيف أنه كان ينظر بنور الله .. فماذا يمكنه أن يفعل هذا أو ذاك ؟
والقتل غيلة قد يكون معنويا كما هو مادى، فمحاولة تشويه الصورة الذهنية لإنسان أو لجماعة بإثارة الأباطيل والمفتريات والتهم الملفقة حولها هو اغتيال معنوى، وعادة ما يكون الذى يغتال الآخرين معنويا ذا منطق معسول ولسان عذب، ذكيا، يملك إمكانيات كبيرة فى التخطيط والتدبير والحركة والتآمر .. ولديه من الوسائل ما يستطيع بها أن يؤثر فى الناس، وقد يكون إظهار التقوى والورع، والتبتل، والدموع التى تسيل على الخدود، وتسبيل العيون، وإطالة السجود، ورفع الأيدى بالدعاء، والمبالغة والادعاء فى الحرص على الصالح العام من أهم الوسائل المعتمدة فى الضحك على الناس والتغرير بهم .
إن الدرس الذى يجب أن نتعلمه من عمر العظيم هو أن نكون شرفاء فى خصوماتنا، وأن نحذر من الهبوط إلى الدرك الذى يشين أشخاصنا وأقدارنا وقيمنا، فالتاريخ الحق لا يرحم أحدًا، والمواقف بإيجابياتها وسلبياتها مخزونة فى الذاكرة، وقد تُستدعى فى أى وقت، ويومها ينكشف المستور أمام الناس جميعا، وربما أمام تلاميذنا ومريدينا، أو من كان يتعاطف معنا معجبا بنا، فنسقط من علٍ، ونبحث عن هيبتنا، أو أحدا يتعاطف معنا أو يقف إلى جوارنا فلا نجد .. وقد نكون هناك، لكننا لن نستطيع الدفاع عن أنفسنا، فالمبررات مهترئة وهشة والحجة واهية وعاجزة، وقد لا نكون هناك، فيُهال علينا تراب فوق التراب، لكنه تراب الهوان .
يا صاحبى إن الأمر جد خطير .. لا تستهن .. لا تتصور أن الأمور يمكن أن تجرى كما تشتهى، لا تغرنك وسائلك، أو بعض الأدوات التى تجمعت فى يدك، فسرعان ما يتبدد كل ذلك عند أول منعطف، نسأل الله العفو والعافية والسلامة فى الدنيا والآخرة .
الأخ الحبيب ..
إن مجتمع الإخوان ليس مجتمعا من الملائكة، ولا هو مجتمع من الأنبياء والرسل، ولا يزعم أحد من أفراده أنه صاحب قداسة، أو أنه معصوم من الخطأ، إنما هم بشر يصيبون ويخطئون، ويجرى عليهم ما يجرى على بقية البشر، غير أنهم – كجماعة – يحملون أخلاقا وإيمانا ورسالة لها سموها ودوامها وكمالها، وبقدر ما يتمثلون خلق هذه الرسالة، بقدر ما سيكونون قريبين من الوصول إلى غاياتهم ومراميهم، والعكس صحيح . إن المعيار الحقيقى الذى يجب أن يتمتع به الإخوان هو معيار الأخلاق، وإلا فما هو الشئ يمكن أن نعطيه للناس ؟
لذلك أيها الإخوان، لا تحاولوا إضفاء هالات القداسة على قياداتكم، أنا أعلم أنكم تقدرونهم وتجلونهم وتحترمونهم، لكن تعاملوا معهم على أنهم بشر، كالبشر، هم ينتظرون نصائحكم ومراجعاتكم، فالدين النصيحة، ولكن بالأدب والخلق الذى عُرف عنكم .. أنا لست حريصا أو مشغولا بأن أبدو أمامكم نبيلا، ولكن ما يهمنى موقفى، سرى قبل علانيتى، أمام الله تعالى .. لن ينفعنى أحدكم، وسوف آتيه يوم القيامة فردا، عاريا حافيا حاسر الرأس، وتذكر يا صاحبى أنك إذا كسبت العالم كله وخسرت نفسك فقد خسرت كل شئ .
أسأل الله تعالى أن يعلمنا ويهذبنا ويحلمنا، وإلى لقاء قريب إن شاء الله بعد عيد الأضحى المبارك أعاده الله علينا وعليكم وعلى أمة الإسلام بالخير والعزة والرفعة، وكل عام وأنتم بخير.
والله من وراء القصد ؛
ــــــــــــــــــــــــ
النائب الأول للمرشد العام للإخوان المسلمين

