02/08/2009
*أحمد منصور
التقارير التى تناولتها الصحف البريطانية فى الأسابيع الماضية حول استشراء الفساد بين أعضاء مجلس العموم البريطاني وأعضاء الحكومة ، عكست تغيرا واضحا فى مساحة وحجم الشفافية والنقاء التى كان يتمتع بها السياسيون فى هذه البلاد ، وقد سعي رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون لاحتواء الأمور بعدما وصلت شعبية حزب العمال إلي الدرك الأسفل وسط توقعات معظم المراقبين بأن الحزب سيخسر الأنتخابات البرلمانية القادمة لا محالة ، وما حدث فى بريطانيا حدث أكبر منه فى فرنسا حيث تصدرت الصفحة الأولي لأكبر الصحف الفرنسية " لوموند " فى عددها الصادر فى 23 يوليو الماضي تقرير أصدره ديوان المحاسبة أعلي سلطة رقابة مالية فى البلاد عن التجاوزات المالية فى قصر الأليزيه والنفقات الباهظة للرئيس ساركوزي .. وهذه هي المرة الأولي فى تاريخ الجمهورية الفرنسية التى يفتح فيها ملف نفقات الأليزيه بعدما تجاوزت نفقات ساركوزي نفقات كافة الرؤساء الذي سبقوه ، وقد أشار التقرير إلي أن التنقلات الرئاسية للعام 2008 بلغت 14 مليون يورو مع أسطول من السيارات والطائرات ، أما باقات الورود فإن الرئيس وزوجته المطربة كارلا بروني ينفقان يوميا 763 يورو أي سنويا 257809 يورو علي الورود فقط ، أما تنظيف ملابس الرئيس وكارلا فإنه يكلف الخزينة الفرنسية 155396 يورو هذا غلاوة علي رصد لكثير من المخالفات المالية التى يتجاوز كثير منها الملايين.
قد أ كد ديوان المحاسبة أن ساركوزي قد تجاوز فى نفقاته كل من سبقه من الرؤساء فى تاريخ الجمهوريات فى فرنسا ، ولم يمنع رئيس الديوان الذي اصدر التقرير ورفض أن يكون سريا ونشر فى الصحف كون أن الرئيس هو الذي يعينه من أن يواجه الرئيس بمخالفاته التى هزت الطبقة السياسية والمجتمع الفرنسي في ظل ما يقوم به ساركوزي من دور خطير فى تدمير معارضية سواء باستيعابهم فى منظومة الدولة أو أقصائهم من مناصبهم بأسلوب لا يقل عن أساليب حكام العالم الثالث فى التعامل مع المعارضين لهم ، ورغم العراقة التى تتمتع بها مؤسسات الدولة فى فرنسا إلا أن بعض المراقبين يرون أن ساركوزي يقوم بتفكيك بنية النظام الجمهوري فى فرنسا بأسلوب الديكتاتورية الناعمة ، وأنه يسترشد ببعض زعماء دول العالم الثالث وعلي رأسهم زعماء عرب ممن قضوا في السلطة ثلاثة عقود أو أكثر ويلتقي ببعضهم من آن لآخر ليطبق شيئا من تجاربهم فى تفكيك ليس بنية المعارضين له وإنما حتى بنية الدولة حتى يبقي أكبر فترة ممكنة فى السلطة ، ويري بعض المراقبين فى فرنسا أن ساركوزي سوف يجري تغييرات كبيرة فى فرنسا خلال فترة حكمه منها تغيرات فى الدستور تتيح له البقاء أكبر فترة ممكنة فى السلطة علاوة علي قيامه بتحييد أو إبعاد أو أغواء معارضيه بحيث يميع المعارضة سواء كانت سياسية أم إعلامية ويقوم بتفريغ المؤسسات الأعلامية من كبار منتقديه من الصحفيين المستقلين ، عبر علاقاته المتشعبة والعميقة مع أصحاب رؤوس الأموال ورؤساء مجالس الشركات والمجموعات الأقتصادية العملاقة فى البلاد والتى تمتلك معظم المؤسسات الأعلامية الفاعلة فى فرنسا ، ولم يتورع ساركوزي الذي يتمتع بسلطات واسعة فى تعيين كبار المسئولين بما فيهم رئيس ديوان المحاسبة من تغيير من يمكن أن يشكل له حرجا فى تصرفاته ويتوقع كثيرون أن يشكل تقرير جهاز المحاسبات عاملا فى تغيير رئيسه علي يد ساركوزي قريبا ، حيث أنها المرة الأولي فى تاريخ فرنسا التى ينتقد فيها رئيس فى السلطة بشكل رسمي وفق تقرير محاسبي ، وعلي خطي ساركوزي يمشي بيرسلكوني رئيس الوزراء الأيطالي الذي تجاوز الثانية والسبعين ومع ذلك يعيش حياة البلاي بوي الذي لا يقيم وزنا لأحد ، ويقوم من خلال امبراطوريته المالية بالمزاوجة بين السلطة والثروة علي غرار ما يحدث فى معظم الدول العربية لاسيما الأنظمة الجمهورية التى تتمتع بحجم عال من الفساد ولاعجب أن يكون ساركوزي هو الآخر علي علاقة وثيقة بزعماء هذه الدول ويطبق تجربتهم رغم الأختلاف الجذري بين تلك الأنظمة والنظام الجمهوري فى إيطاليا ، لكن ضعف المعارضة وذوبان القوي الذي تعدل كفة الميزان فى تلك المجتمعات وتقويض الزعامات السياسية واختفاءها ساعد علي بروز هذه الفقاعات فى عصر أزمة الزعامة الذي يجتاح العالم في هذه المرحلة ، مما جعل هؤلاء يكفون تماما عن الحديث عن الديمقراطية أو أي شيء يمت إليها وأصبح دعم الأنظمة الديكتاتورية فى بلادنا هو المنهج الثابت لديهم .
إن هذه التحولات الهائلة فى الغرب والتى بدأت بعد الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 حيث تجاوزت الولايات المتحدة كل الأعراف والقوانين الدولية والمحلية وفتحت الباب علي مصراعيه لثقافة القتل وجرائم الدولة تحت حماية مجلس الأمن وانتهاك سيادة المواطن الأمريكي تحت رعاية وزارة العدل الأمريكية وطاقم بوش الذي يطالب البعض بمحاكمته بسبب تجاوزته ثم التجاوز علي العالم كله عبر نشر عصابات القتل التى ترعاها السي آي إيه والجيوش المجرمة فى افغانستان والعراق ومناطق أخري من العالم ، هذه التحولات كانت البداية لترسيخ الديكتاتورية والفساد فى الغرب ، حيث انتقلت من الولايات المتحدة إلي أوروبا وسقطت تلك القشرة التى كانت تستر عورات المجتمع الأوروبي والتى كانت تتحدث عن الديمقراطية وحقوق الأنسان لكنها فى النهاية أصبحت هي المتجاوز الرئيسي لكل هذه الأعراف ، ورغم أن بعض المراقبين يعتبرون ما حدث كان ذروة التجاوزات إلا أن آخرين يرون أن ما يكشف النقاب عنه الآن ليس سوي البداية لتحولات هائلة في الغرب سوف تنعكس قطعا علي الشرق وسوف ترسخ لأنظمة ديكتاتورية واستبدادية تعيد العالم ربما إلي ثقافة القرون الوسطي رغم تفاؤل الآخرين أن الزمن لا يعود إلي الوراء في عصر المعلومات والأنترنت ، لكن الخطورة هي من المعلومات والأنترنت ، فقبل ذلك كان خبر فى صحيفة يهز الدنيا لكن حجم المعلومات الهائل الآن لا يحرك أحدا بل أصبح يزيد من حجم الفساد وممارسات الديكتاتورية في ظل انعدام رد الفعل سواء من المعارضة التى تم تقزيمها أم الشعوب الغارقة فى مشاكلها الأقتصادية أو اكتفائها بثقافة الفرجة أو انتظارها لمن يمكن أن ينوب عنها فى تقويم الحكام و فسادهم ، إننا مقبلون علي عصر خطير .. عصر الديكتاتورية والفساد العالمي .
ـــــــــــــــــــــــــ
إعلامي عربي ومقدم برامج فى الجزيرة
*الجزيرة توك

