16/05/2009

محمد عبد الحكم دياب*

حالة فرح هيستيري عمت الأوساط الرسمية المصرية عقب الإعلان عن زيارة باراك أوباما لمصر في الرابع من الشهر القادم. وعبرت عنها الصحف وأجهزة الإعلام الحكومية، وهي حالة لا يمكن أن تُرى إلا بين أروقة حكم تابعة ومُستلَبة الإرادة وفاسدة التكوين. أقيمت المهرجانات وتوالت اللقاءات، التي أمها المطبعون ورجال الكويز والانعزاليون، يهنئون بعضهم بعضا، ومثل هذا السلوك مستهجن وطنيا وسياسيا.
أما في حالة مصر الراهنة فإنه يعكس مستوى الضياع السياسي، حيث لم يتبق أمام أهل الحكم من سبيل إلا استجداء قبول الإدارة الأمريكية وطلب رضاها. ومن ينتظر القبول والرضى من خارج حدوده ومن غير شعبه يحكم على نفسه بالذل والعار أبد الدهر. ومثله 'كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى'. وهذا الهوس أنساهم أن محطة أوباما سواء كانت القاهرة العاصمة الرسمية أو شرم الشيخ العاصمة العائلية، ليست محطته الأولى في المنطقة، وليست معبره الأول إلى العالم الإسلامي، اختار تركيا من قبل. فوزن الحكم فيها مستمد من داخلها، ومن تطور نظامها السياسي وفعاليته واستقلاله، ومن طريقة اختيار الحكم والحاكم، بالانتخاب غير المزور والإرادة الحرة وثقة المواطن، ونمو الاقتصاد وارتفاع مستوى المعيشة، والتزام المسؤول فيه بالمصلحة الوطنية. كان ذلك واضحا في أكثر من مناسبة، لم تسمح حكومة تركيا باستخدام أراضيها لغزو العراق، وتصدى رئيس وزرائها لأكاذيب رئيس الدولة الصهيونية في مؤتمر ديفوس الأخير، وحين لم يمنحه رئيس الجلسة الوقت الكافي للرد انسحب بلا رجعة. واختيار تركيا كمحطة أولى كان عن جدارة تركية وليس تكرما أمريكيا. ولهذا لم يصب مسؤولوها بالفرح أو الهوس وهو يستقبلون الرئيس الأمريكي في بلدهم. والذين أصيبوا بالهوس في مصر في حاجة دائمة إلى سيد يرعاهم. وقد كانت مشكلتهم مع سيد البيت الأبيض السابق أنه كان خشنا وغبيا ومتعصبا مثلهم تماما. وتكررت زياراته لشرم الشيخ، وكثيرا ما أناب كوندوليزا رايس في رحلات مكوكية، وكانت كلها لدعم الحكم ومنحه القدرة على الاستمرار وشد أزره فيما يقوم به ضد الفلسطينيين وفيما يقدمه للدولة الصهيونية، وإذا كان هناك اختلاف بين السابق واللاحق لن يتعدى الأداء، الذي يعكس الفرق بين رئيس محدود الذكاء والأفق ومتعصب وآخر طموح يرى من مصلحته إزالة كل ما يهز الإدارة الأمريكية، ويعمل على تحسين صورتها. ومجرد ابتسامة من هذا السيد الجديد هي بمثابة طوق نجاة أو حبل إنقاذ لحكم ليس له بين شعبه رصيد يذكر.
وإذا كان اختيار تركيا كمحطة أولى لوزنها ولقوة كامنة في نظامها السياسي، فإن العكس هو الصحيح مع مصر. فأوباما يعلم أن نظامها ليس شرعيا.. ورئيسها مستمر في منصبه بالتزوير ووحشية الأمن، وبنفوذ منظومة الاستبداد والفساد والتبعية. وسجل هذا النظام مزدحم بالتجاوزات، ملاحقات، اعتقالات، تعذيب، انتهاك أعراض، اختطاف رهائن، سحل قضاة، قتل أبرياء، مصادرة نقابات مهنية. ولهذا وقع عليه اختيار الإدارة الأمريكية السابقة لينتزع نيابة عنها اعترافات معتقليها المسلمين والعرب تحت الإكراه ووطأة التعذيب الشيطاني الذي تفوقت فيه سلطات التحقيق وأجهزة الأمن المصرية. ومن الطبيعي أن تكتشف الأوساط الأمريكية الآمال المعلقة على رئيسها لمنح أهل الحكم في مصر صك 'براءة الذئب من دم بن يعقوب'. وهذه الآمال زادت في الشهور الأخيرة، مع تقاطر الوفود الحكومية والحزبية على واشنطن، وبدأت بزيارة جمال مبارك للعاصمة الأمريكية، وأدت إلى الإفراج عن أيمن نور، وتجميد قرار سحب الجنسية المصرية من سعد الدين إبراهيم. وكل ذلك لاقناع الرئيس الجديد فيعيد النظر في موقفه من حكم مبارك، الذي يعي أنه لا يستطيع الاستقرار أو الاستمرار دون سيد يحركه ويأتمر بأمره، وكان ذلك حافزه على تحمل ضغوط سيد البيت الأبيض السابق، وللتخفيف من هذا الحمل وجد الحل في العمل لحساب الدولة الصهيونية، بما لها من تأثير على صانع القرار الأمريكي.. وأبلى بلاء حسنا في خدمة المشروع الصهيوني وتبنيه، أحكم الحصار على غزة، ودمر أنفاقا كانت تمد أهلها بالحياة، ومنع عنها الغذاء والمعدات والدواء، واستطاع شد الانتباه إلى 'عدو بديل'، إبعادا للأنظار عن الجرائم وعمليات الإبادة التي تجري في العراق وفلسطين وأفغانستان وباكستان والصومال.. هذا العدو هو إيران وحلفاؤها في المنطقة، خاصة حزب الله.. وتأثرت قطاعات غير قليلة في أوساط الرأي العام المحلي والعربي والإسلامي. بعمليات التحريض التي قادها الخطاب الرسمي والإعلامي الحكومي المصري ضد المقاومة، وكل من يساندها، إيرانيا وعربيا. وإثارة الفتن وتوظيف تهمة التشيع لتأجيج المشاعر ضد إيران وحزب الله. والنتيجة هي تطابق الرؤى السياسية لحكام تل أبيب وحكام شرم الشيخ، وتساوى لديهم الخطر الإيراني في درجة تهديده لكل من القاهرة وتل أبيب وعواصم الغرب. وكل هذا أهّل حكم مبارك ليكون واجهة 'مشروع أوباما'. المصمم لتصفية القضية الفلسطينية، وقد سبق وكان مبارك واجهة 'مشروع ساركوزي' - الاتحاد من أجل المتوسط - الذي تكون لدمج الدولة الصهيونية في دول حوض المتوسط لكن هذا الاتحاد ولد عليلا بسبب الموقف الأوروبي منه!
ليس في مقدور باراك أوباما الخروج على قواعد وأسس السياسة الأمريكية، والممكن الوحيد لديه هو تكتيك التعامل وليس استراتيجية السياسة. وإذا كان جورج دبليو بوش قد تعامل مع العرب والمسلمين بقفاز من حديد، فأوباما يستطيع القيام بنفس المهمة لكن بقفاز من حرير. وبالقطع فإن حكام تل أبيب سيستفيدون من الزيارة، فهي تتيح لهم مساحة جديدة للتأثير على أوباما، ومن الممكن ابتزازه بها. فسوف يوصف خطابه إذا كان دبلوماسيا وناعما بأن أوباما تراجع عن تحفظاته المتعلقة بملف الحريات وحقوق الإنسان. ومن ناحية أخرى قد يصورونه قابلا بالاستبداد والفساد ومصادرة الحريات في مصر، وذلك مقابل إغماض عينيه عن الاستيطان والجدار العازل ومصادرة المزارع والبيوت الفلسطينية، وهدم المنازل وتسويتها بالأرض، وقضم الأراضي من طرف الدولة الصهيونية دوريا. وما تسرب من أنباء حول 'مشروع أوباما' لا يكشف عن تغيير حقيقي يؤدي إلى حل عادل للصراع العربي الصهيوني، فقد اعتمد على كتلة عربية قابلة بالمشروع دون قيد أو شرط، وعلى جهد أمريكي وغربي وصهيوني لتسويقه وترويجه. والمشروع يسقط حق العودة والقدس من التسوية المفترضة. ويبدو من السياق أن عمان والرياض اللتين باركتا المشروع قد أوحتا للإدارة الأمريكية بأهمية إعلان المشروع من القاهرة، تفاديا لحرج قد تتعرضان له، وتجنبا لأي مواجهة مع أجهزة الإعلام والصحافة الحكومية المصرية، في حال تجاهل حسني مبارك بما لدى رجاله من قدرة فائقة على الإهانة وشخصنة الخلافات السياسية، والمثل القريب لغة الفخر التي وردت على لسان أحمد ابوالغيط بأن مصر أفشلت قمة غزة في الدوحة بلا خجل، وكذا إعلامه وصحافته وقدرتها الفائقة على السباب والشتم والبذاءة والردح وفحش القول.
ومع ذلك فإن الزيارة في حقيقتها فتح أمريكي جديد لمصر، والمخضرمون منا يتذكرون زيارة نيكسون 1974 وكانت بمثابة الفتح الأول، وبدأت معها إرهاصات التنازل عن 99 في المئة من الأوراق السياسية لصالح الولايات المتحدة. ومن المرجح أن يستخدم حكام القاهرة كحصان طروادة لتنفيذ مشروع أوباما. وقد تواتي الرئيس الأمريكي الفرصة للتقليل من مستوى كراهية أمريكا وسياستها، وتخفيف حجم التوتر بينها وبين دول كثيرة في العالم. وفي الوقت الذي كانت فيه مصر صيدا ثمينا بالنسبة لنيكسون نجح في اقتناصه هو وهنري كيسنجر. وقتها حشد السادات ملايين المصريين ليكونوا في استقبال الرئيس الأمريكي الأسبق، بشعارات خادعة عن السلام والرخاء والرفاهية والانفتاح، وكانت مصر الخارجة لتوها من حرب 1973 في حاجة لالتقاط الأنفاس، وهو ما ساعد السادات إلى تحويل انتصار اكتوبر العربي إلى نصر أمريكي حاسم في الحرب الباردة، كان له ما بعده. والنصر الأمريكي كان مجانيا منح مصر لقمة سائغة لسادة البيت الأبيض. فتحول الحكم الوطني العروبي المستقل إلى نظام تابع وغيتو إنعزالي وضع أسسه السادات. واستقر مع مبارك بالجمود والعشوائية والتوحش. وفتح باراك أوباما الجديد لمصر لا يأتي في ظروف حرب باردة ولا لحاجة إلى انتصار من النوع الذي حققه نيكسون إنما جاء حلقة من حلقات الحرب الساخنة المشتعلة في عدد من البلاد العربية والإسلامية، وتتويجا لانحياز أهل الحكم في القاهرة للمشروع الصهيوني وحلوله المقترحة لصراعه مع العرب والفلسطينيين.
بعد ذلك يقول المهرجون أن حكم مصر لاعب رئيسي في المنطقة.. لكن السؤال في أي ملعب.. هل بقي له غير الملعب الصهيوني؟ ويزيدون القول بأن مصر دولة محورية.. وهذه حقيقة لا جدال فيها، لكن ماذا أبقى حسني مبارك من الدولة لتمارس هذا الدور المحوري. والدولة عندما تدمر وتتحول إلى شركة يكون هم أصحابها عقد الصفقات والحصول على العمولات وممارسة السمسرة والمضاربة على أرزاق وأراضي الناس، وبالحسابات التجارية تمكنت الدولة الصهيونية من إلغاء دور مصر المحوري. وإذا كان السادات قد تنازل عن 99 في المئة من الأوراق السياسية للإدارة الأمريكية فإن حسني مبارك أعطى الدولة الصهيونية صكا على بياض تستخدمه وقتما تشاء وحين تريد.
'مشروع أوباما' قد يكون هدفه استراحة يحتاجها الرئيس الأمريكي لترميم البيت وإعادة ترتيبه، بعد أن أثرت عليه الحروب والأزمات وجرائم الدولة الصهيونية في تعاملها مع محيطها الإقليمي، وإذا ما نجح 'مشروع أوباما'، وفي هذا شك كبير. من المتوقع استئناف الحروب على نطاق أوسع على اتساع المسرح العربي والإسلامي، والسبب بسيط هو حجم ومستوى الأزمات التي يواجهها النظام الغربي كله وليست أمريكا وحدها، وهذا نظام لا ينصلح حاله إلا بالحروب وقعقعة السلاح والغزو والاستيلاء على الثروات والأوطان. والمقدمة تبدو واضحة في باكستان، بحجة الخوف على سلاحها النووي من الوقوع في أيدي تنظيم القاعدة أو جماعة إسلامية متشددة. ولا نبالغ إذا ما توقعنا أن 'مشروع أوباما' سينتهي إلى زيادة التوتر وارتفاع مستوى العداء لأمريكا على المدى البعيد لأنه لن يغير من واقع العالم أو من وضع المنطقة المتردي بل يزيدها ترديا، ومعروف موقع هذه المنطقة من العالم وتأثيرها عليه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب مصري / القدس العربي