11/04/2009

أحيانا يضطر الانسان لتناول أمور تبدو شخصية، وهي ليست كذلك، لأن لها من علاقة بهموم الناس ومشاكلهم والموقف منها. أقول هذا بمناسبة ما جرى في 'يوم الغضب' المصري.. يوم السادس من نيسان /ابريل هذا الشهر..
وكان موضوعا لبرنامج 'ما وراء الخبر' في قناة 'الجزيرة' في نفس اليوم.. وسعى مقدم البرنامج علي الظفيري إلى التعرف 'على مآلات الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة في مصر في ظل التحرك الذي دعت إليه حركة شباب 6 إبريل والائتلاف المصري للتغيير فيما عرف بـ'يوم الغضب العام'، وهذا بالنص ما جاء على لسانه.. وتحدد لذلك محوران.. الأول عن أسباب تصاعد الاحتجاجات ودلالات انتشارها وسط فئات خارج القوى السياسية التقليدية. الثاني عما يمكن أن تقود إليه هذه التحركات في الظروف الاقتصادية والسياسية التي تعيشها مصر اليوم! وكان ضيوف البرنامج رئيس تحرير مجلة 'اكتوبر' المصرية مجدي الدقاق ممثلا عن الحزب الحاكم ولجنة جمال مبارك، المعروفة بلجنة السياسات من جهة، وكاتب هذه السطور من جهة أخرى، وانضم إليهما المدون أحمد ماهر.. منسق حركة شباب السادس من إبريل. واستهل الدقاق حديثه.. منفعلا ومتوترا، وبدا أحيانا متهورا.. وصف دعوة التعبير عن الغضب بـ'نوع من الدعوات الانتحارية'. بجانب أوصاف أخرى حقرت من العمل ومن دور ووزن حركات التغيير المصرية المشاركة فيه، وأصدر حكما بالفشل عليها. وأضفى على المعارضة (الرسمية) صفة الذكاء السياسي فقد زعم أنها لا تعرف من يقف وراء هذه الدعوات المشبوهة!! ونسي أنها أحزاب ماتت ومن لم يمت منها يعيش الاحتضار.. يعاني من الغيبوبة بفعل الشيخوخة والمرض الحقيقي لا المجازي. وادعى أن دعوة 'الغضب العام' دعوة هدامة.. صدرت من شباب مغامر.. لم يستجب لنداءاتهم أحد. وعبر بذلك عن خطاب حكومي في 'يجرم' المطالبات المشروعة والأعمال السلمية للمصريين، لأنها تخرج عن ضوابط وضعتها منظومة الاستبداد والفساد والتبعية. بأبعادها الثلاثة، وأدت إلى وصول التبعية إلى درجة الاندماج في المشروع الصهيوني.. فأضحى الحكم يصادق من يصادق الدولة الصهيونية، ويعادي من يعاديها. ووفر لها الحماية والأمن وقاتل لصالحها!. ويبدو أن ممثل الحزب الحاكم أراد أن يكون مثيرا وملفتا للأنظار.. فاعتمد خطاب التهويش والتهديد والوعيد، وألقى باتهامات جزافية.. ليس عليها دليل واحد، ولم يذكر معلومة واحدة صحيحة تعزز ما يقول. وكانت كل مشكلته مع كلامي أنه يصدر وأنا 'جالس في لندن' وكأن لندن أضحت حكرا على الهاربين بأموال المصريين وممنوعة على سواهم. وكرر لغة المَنِّ والمعايرة المعتادة في الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي تجاه الجميع.. مصريين وغير مصريين. وقال انني أعبر عن رأيي 'ولا أحد يفعل معه شيئا'، ويبدو أنه لا يعلم أو يتجاهل دوام زياراتي المنتظمة لبلدي لسلب ذرائع الادعاء بالهروب، ولذا أطلب منه أن يشهد استقبالي في زيارتي القادمة ويرى بأم عينه، ما يتم على 'بوابة الجحيم'.. المسماة جوازات مطار القاهرة. وما جرى معي في الزيارة الأخيرة استفز سيدة عراقية فاضلة.. أقبلت نحوي تسألني 'انت مصري'؟ قلت لها نعم.. قالت أفهم أن يفعلوا معنا نحن العراقيين ما يفعلونه أما يعاملونكم بهذه الطريقة شيء غير مفهوم.. ضحكت وقلت لها.. يا سيدتي عليك أن تعرفي أن كلنا في نظر الجلادين سواء، إنها المساواة الوحيدة التي نستمتع بها، هي مساواة الذل أمام شرطي الجوازات أو ضابط أمن الدولة أو مخبر من عسس 'بوابات الجحيم' المعروفة بالمطارات والموانئ والمنافذ الحدودية.
كان على ممثل الحزب الوطني ورجل جمال مبارك أن يسأل نفسه لماذا تحولت مصر إلى بلد طارد يضطهد ويذل من يقيم على أرضه.. مواطنا أو وافدا؟. ولماذا يدخل الصهيوني معززا مكرما.. تتكفل السلطات بحمايته وتقديم العون والراحة له؟.. لماذا يغامر الشباب بالذهاب إلى المجهول مفضلا الموت عن حياة أصبحت فوق طاقته على التحمل؟. وفور أن ذكرت أن مصر في حاجة إلى نظام جديد 'جمهوري دستوري برلماني' يكون للشعب القول الفصل في صياغته، وهو لا يختلف عن أحد مطالب 'يوم الغضب' بانتخاب جمعية تأسيسية تضع دستورا يضمن الحريات السياسية والنقابية ويحدد فترة الرئاسة، بجانب مطالب أخرى برفع الحد الأدنى للمرتبات إلى 1200 جنيه في الشهر ومنع تصدير الغاز إلى الدولة الصهيونية.. وفور ذلك فلت زمام ممثل الحزب الحاكم، وكال الاتهامات يمينا ويسارا. متجاهلا اجماع قوى التغيير، بألوانها وتنوعها، وإصرارها على العمل السلمي والديمقراطي لإنجاز التغيير، الذي دق ناقوسه مدويا، ووجد من 'عائلة مبارك' أذانا صماء وممانعة في الاستجابة لندائه. وأفاض في كلام له أول وليس له آخر.. عن مخطط للاستيلاء على الإذاعة والقيام بانقلاب 'يتفق مع دعوة الاستاذ عبد الحكم'.. الذي هو أنا!. وكرر عبارته المفضلة 'الذي يقيم في لندن'. ونسي أن جمال الدين الأفغاني لجأ إلى الغرب، وأصدر مجلة 'العروة الوثقى' المناهضة للفساد والاحتلال البريطاني من احدى عواصمه، ومحمد فريد من أشرف زعماء مصر ومن أعظمهم قدرا. مات في برلين في غرفة متواضعة والقائمة تطول.. سواء بالأمس أو اليوم. تجمع عشرات المفكرين والسياسيين العرب ممن لجأوا لهذه البلاد.. نفيا اجباريا أو اختياريا أو هربا من الملاحقة .
ادعى رئيس تحرير 'اكتوبر' أنني أنتمي لمنظمة مجهولة.. يمولها دعاة 'الفوضى الخلاقة'.. وهذان اتهامان (الانتماء لمنظمة مجهولة والتمويل) اقتضيا عرض الأمر على قانونيين وإطلاعهم على نص ما ورد في البرنامج من اتهامات باطلة وبيان جدية تهديده المبطن بالاغتيال، عندما أشار إلى امكانية اعتقالي واغتيالي، وإن ألحَقَ قوله بأن 'مصر لا يحدث فيها هذا'!.. والاعتقال في مصر تحصيل حاصل بالنسبة لي ولغيري. وحدث وسيحدث. وإذا ما سأل رئيس حزبه فسيعلم أنني أحد من لفقت لهم قضايا. واحدة منها حفظت باغتيال السادات. وثانية لم تسقط، وتم الحكم فيها بعد شهر واحد من استقرار مبارك الأب على كرسي الحكم، في الخامس عشر من تشرين الثاني /نوفمبر 1981، وكشفت هذه القضية الملفقة تحديدا طبيعة الحاكم الجديد الانتقائية، ففي اللحظة التي أطلق فيها سراح معتقلي أيلول/سبتمبر 1981 واستقبلهم في قصر الحكم أسرع إلى إحالة المتهمين في تلك القضية إلى محكمة القيم. رغم علمه أنها ملفقة، فقد كان أحد صناعها مع النبوي إسماعيل وزير داخلية السادات.. وقتها كان مشرفا على أجهزة الأمن، ولغز هذه القضية لم يتوقف عنده أحد.. لماذا تم الافراج عن معتقلي الداخل ومحاكمة منفيي الخارج.. وكان الأمر بالنسبة لي واضحا وجليا، فبين المنفيين.. أغلبهم من الكتاب والصحافيين والسياسيين.. شخصية عسكرية وطنية مرموقة، عمل حسني مبارك تحت إمرتها في حرب 1973، وعارضت السادات بسبب زيارته للقدس المحتلة، وكانت مصدر قلق وخطر على الحاكم الجديد، فبادر بتصفية الحساب معها مبكرا.. وقطع عليها الطريق إذا ما فكرت يوما في التقدم لحكم مصر، وكان صعبا تقديم هذا القائد العظيم للمحاكمة وحده، فتم وضعه على رأس قائمة من تسعة عشر متهما، كنت واحدا منهم.. حوكموا جميعا.. هذا ساعدني مبكرا على إصدار حكمي على شخصية هذا الحاكم وطبيعته، وأذكر أنني كتبت مقالا في بداية الثمانينات عن 'معادلات مبارك المختلة في السياسة والحكم'، في الوقت الذي كان الجمع يرقص ويهتف له!!. وتأكد ذلك الحكم المبكر فور أن عاد ذلك القائد العسكري إلى مصر من منفاه.. لم يكتف حسني مبارك بالحكم الأول الذي صدر ضده. قدمه للمحاكمة العسكرية بتهمة إفشاء أسرار عسكرية وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات قضاها الرجل دون طلب عفو من ضابط عمل تحت إمرته.. لم يراع مكانته ولا قيمته الوطنية وتاريخه ودوره الكبير في صناعة ملحمة اكتوبر. هذا هو مستوى تفكير حسني مبارك الذي منعه من تعيين نائب له على مدى ثمانية وعشرين عاما.. خوفا وعملا بنصيحة عرافة قالت له ان الخطر عليه من نائبه.
وهذا الناطق غير الرسمي المدافع عن 'رئيس جمهورية شرم الشيخ'.. قريب من الرئيس الفعلي جمال مبارك، وهو من نقله مؤخرا من رئاسة تحرير مجلة 'الهلال' الشهرية الثقافية إلى مجلة 'اكتوبر' الأسبوعية.. التي عرفت حين أسسها السادات وعين أنيس منصور رئيسا لتحريرها. وجاء اختيار الدقاق لرئاسة تحرير هذه المجلة بعد زيارة مبارك الابن للولايات المتحدة. ومواكبا لما نسب إلى وزيرة الخارجية الصهيونية السابقة تسيبي لفني، حين ذكرت أمام مجموعة إدارة الأزمات، التي شكلتها الخارجية الصهيونية أثناء محرقة غزة عن كتاب وصحافيين عرب. وصفتهم بـ' سفراء للدولة الصهيونية لدى الدول العربية، وهم أفضل مَن يُوصِّل وجهة النظر الصهيونية إلى الشارع العربي بشأن حركة حماس والمقاومة'. وأصدرت ليفني تعليماتها بنشر مقالات هؤلاء ضد المقاومة وحركة حماس على الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الصهيونية، وهي المرة الأولى التي تظهر فيها مقالات وآراء كتاب عرب على الموقع الرسمي لوزارة صهيونية، وبتعليمات من الوزيرة المسؤولة . وطلب أولمرت ترشيح أحدهم لأعلى وسام في الدولة الصهيونية، وقال عنه انه أكثر صهيونية من 'هرتزل' (مؤسس الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر).

                                                                                                                      كاتب من مصر يقيم في لندن

                                                                                                                              القدس العربي