01/02/2009

أثارت الجرائم الخطيرة التي ارتكبتها "إسرائيل" في غزة عشرات الناشطين والمحامين والجمعيات الدولية، وأفزعهم هذا النمط من سلوك دولة عضو في الأمم المتحدة تنكر الحياة عمداً على شعب غزة بعد أن انفردت به فمارست ضده كل صفوف القوة وارتكبت ضده كل أنواع الجرائم الكبرى المعروفة بل واستحدثت أنواعاً جديدة من الجرائم أفظع آلاف المرات من الهولوكوست ضد اليهود حتى في الروايات اليهودية، واستخدمت في ذلك أنواعاً جديدة من الأسلحة الفتاكة المحظور استخدامها حتى في حروب الجيوش النظامية، ولذلك فإن انهيار القيم الأخلاقية العليا التي يحرص المجتمع الدولي قدر المستطاع على المحافظة عليها خلال هذه العمليات هو الذي استفز المنظمات الحقوقية للبحث عن بدائل قضائية تستطيع تطبيق القانون الجنائي الدولي الجاهز على الجرائم الإسرائيلية.

في هذا الإطار بدأت الجهود تدق أبواب المحكمة الجنائية الدولية التي انشغلت حتى الآن بقضايا أقل بكثير مما تورطت فيه "إسرائيل". وقد سارع عدد من المهتمين بهذه القضية إلى تقديم شكاوي إلى المحكمة ولكن المدعي العام رفض التحقيق فيها وأكد أن "إسرائيل" ليست طرفاً في نظام المحكمة مما يستحيل معه جلبها إلى المحكمة، فلما قيل أن السودان أيضاً ليس طرفاً ومع ذلك ظل البشير شغله الشاغل رغم عدم وضوح القضية وغلبة طالبها السياسي، وأن تجاهل "إسرائيل" والتركيز على البشير قد استفز حتى الأوروبيين في هذا المجال، قال المدعي العام إن "إسرائيل" يمكن أن تجلب إلى المحكمة إذا قرر ذلك مجلس الأمن مثلما فعل مع البشير، وهو يعلم أن مجلس الأمن جهاز سياسي لا يزال حكراً على النفوذ الأمريكي يخدم به من يشاء ويضر به من يشاء. والحق أن دولة طرفاً في نظام روما يمكن أن تحرك الدعوى تطبيقاً للمادة الثالثة عشرة من نظام روما، وهناك عدد كبير من الدول العربية والإفريقية واللاتينية المستعدة لذلك رغم الضغط الأمريكي. وبطبيعة الحال فإن تعاون المدعي العام نفسه كطريق ثالث لتحريك الدعوى في حالة "إسرائيل" مستحيل.

من هنا بدأ البحث في مخارج قانونية لمحاكمة "إسرائيل" أمام المحكمة الجنائية الدولية لأن مجرد تقديم الشكاوى والتحقيق فيها سوف يحدث أثراً إعلامياً ونفسياً خطيراً أشد من رفع الدعاوى ضد "إسرائيل" أمام المحاكم الوطنية خاصة في الدول التي يحق لمحاكمها أن تمارس الاختصاص الجنائي العالمي.

من ناحية أخرى، أعلنت السلطة الفلسطينية يوم 27/1/2009 قبولها نظام روما وانضمامها إليه لعل ذلك يساعد على أن تكون السلطة هي وكيل الدم عن ضحايا غزة، كما كانت "إسرائيل هي وكيل الدم عن كل يهود العالم عبر التاريخ.

وقد استند المدعي العام في تميز مجلس الأمن إذا حرك الدعوى على حكم المحكمة في قضية أحمد هارون وهو حكم يتعرض للكثير من التحدي القانوني في تفسير المادة 13 من نظام روما. وانضمام السلطة الفلسطينية يظهر ولا شك الرغبة في ملاحقة المسئولين الإسرائيليين بسبب جرائمهم، ومحاولة سد النقص في طرق تحريك الدعوى ولكن يرد على هذا الإجراء عدد من الملاحظات. فمن ناحية قد يقال إن السلطة حكومة محلية في إطار اتفاق أوسلو وكان يفترض انتهاؤه عام 1999 وأن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي السياسي والقانوني للشعب الفلسطيني، وهي الأجدر من الناحية القانونية. الملاحظة الثانية هي أن غزة إقليم محتل ولذلك يتمتع بحماية المجتمع الدولي وقانون الاحتلال الحربي ومن واجب كل دولة طرف في اتفاقية جينف الرابعة أو اتفاقية الأمم المتحدة حول مناهضة جريمة إبادة الجنس البشري لعام 1948 أن تتصدى قانوناً لجرائم "إسرائيل". الملاحظة الثالثة هي أنه إذا صح أن السلطة يمكن أن تكون طرفاً استثنائياً في نظام روما فإن ذلك يعني أن "إسرائيل" سوف تفلت بجرائمها من العقاب لأن اختصاص المحكمة لا يبدأ إلا عن الجرائم التي تقع بعد سريان النظام في غزة أي بعد شهرين من تاريخ الانضمام، وهذا هو الأثر الأخطر الذي يرتبه انضمام السلطة.

فإذا انتهينا من مشكلة من له حق تحريك الدعوى، وهو في حالة غزة المدعي العام ويجب الإلحاح على ذلك، وأي دولة طرف، أو الانتظار لحين تمتع السلطة بصفة الطرف في نظام روما، تثور مشكلة أخرى وهي على من ترفع الدعوى. والمعلوم أن الدعوى ترفع فقط على الدول الأطراف في نظام روما ولا صحة لما أثارته المحكمة من أن إحالة الدعوى عن طريق مجلس الأمن يعفي من كل المحظورات القانونية التي تمنع رفع الدعوى على غير الطرف وهو ما قررناه في حالة قضية البشير في السودان. فما الفرق بين "إسرائيل" والسودان بخلاف طريق تحريك الدعوى؟

الحق أن الفوارق كبيرة ليس فقط في حجم وخطورة الجرائم والعمد الواضح والفخر بارتكابها ولكن في أن العلاقة بين "إسرائيل" وغزة علاقة يحكمها القانون الدولي من حيث أن "إسرائيل" دولة محتلة لإقليم يقع تحت الاحتلال، ولذلك فإن الإقليم أمانة في عنق "إسرائيل"، وبذلك تكون جرائمها مضاعفة عما لو كان الإقليم تابعاً لدولة أخرى مستقلة عن "إسرائيل"، خاصة وأن الاحتلال طويل المدة والمؤبد كالاحتلال الصهيوني الاستيطاني يسقط عن الاحتلال امتيازاته في قانون الاحتلال الحربي ويرتب حقاً مطلقاً للشعب لمقاومة هذا الاحتلال بكل ما يملك. ولذلك فإن "إسرائيل" لا تستطيع الشكوى من الصواريخ الفلسطينية حتى لو كانت مؤثرة لأنها ممارسة مشروعة ضد الاحتلال، ويصبح العدوان ممارسة جديدة للعدوان المستمر وهو الاحتلال، فلا يجوز القول كما قالت السيدة هيلاري كلينتون يوم 27/1/2009 أن صواريخ حماس عدوان على "إسرائيل"، لأن هذه الصواريخ تذكر باستمرار الاحتلال، كما لا يجوز مقايضة وقف الإبادة بوقف الصواريخ، فلكل مجاله القانوني الخاص.

ولما كان القانون الجنائي الدولي الذي تضمنه نظام روما الأساسي يتوجه للأفراد وليس للدول بما في ذلك جريمة العدوان، فإن المطلوب هم الأفراد من الطبقة السياسية والعسكرية الذين تورطوا في جرائم غزة.

خلاصة القول إن الطريق مفتوح لطلب "إسرائيل" أمام المحكمة الجنائية الدولية بالطرق التالية. أولها تحقيقات المدعي العام ويجب أن يعتبر تقاعسه عن العمل انحيازاً خطيراً ينال من نزاهة منصبه فيجب لذلك عزله. ثاني هذه الطرق هي توجيه التهم إلى المجرمين الإسرائيليين بأسمائهم أو بوظائفهم وأن ترفع إحدى الدول الأطراف الدعوى، ولكن لا يجوز التعويل على دور السلطة إلا بالقدر الذي يعنيه الانضمام من عزم على الملاحقة من جانب السلطة الإدارية على إقليم لا يزال محتلاً من الناحية القانونية. وما لم يتحمس المدعي العام لهذه القضية فسوف يضر ذلك تماماً بمصداقية المحكمة التي نشأت لتعقب هذا النوع من الجرائم الخطيرة خاصة وأن المحكمة سوف تجد ذلك تحدياً خطيراً لها وهي تستعد لإصدار حكمها المبدئي في اختصاصها في قضية البشير