قُدّر الدين الدولي للحكومة المصرية بنحو 161.2 مليار دولار في يونيو 2025، بينما تُنفق ما يقارب نصف ميزانيتها لسداد هذا الدين، فيما رسم موقع "ميدل إيست مونيتور"، صورة مرعبة تظهر كيف انتهى المطاف بمصر، التي تطمح لأن تكون لاعبًا رئيسًا في المنطقة، إلى سداد ديونها مقابل أصولها؟
المشكلة، بحسب الخبير الاقتصادي الدكتور حسن الصادي أستاذ اقتصاديات التمويل بجامعة القاهرة، لا تكمن فقط في المبلغ الذي اقترضته الحكومة، بل في دوافعها للاقتراض.
مفارقة البنية التحتية
سلط التقرير الضوء على النمو المتسارع الذي تشهده مصر منذ عام 2014، حيث تقترض مبالغ طائلة لتمويل مشاريع تطوير البنية التحتية، وإنشاء عواصم جديدة، ومدن جديدة، وطرق سريعة رئيسة تخترق الصحراء الكبرى. وتعمل العديد من محطات توليد الطاقة فوق طاقتها، في حين تشهد البلاد مشاريع تطوير عقاري ضخمة.
لكنه أوضح أن الحقيقة المؤسفة تكمن في أن مدفوعات الديون تُشكّل 47.4 بالمائة من ميزانية 2024/2025، مقارنةً بـ 37.4 بالمائة في ميزانية 2023/2024، مشيرًا إلى أن مشاريع البنية التحتية لا تسدد هذه الفواتير، بل المصانع والمزارع. فعلى سبيل المثال، قامت مصر ببناء الطرق قبل ضمان قدرة المركبات على نقل السلع إلى الأسواق.
وفي انتقاد لاستراتيجية الحكومة، يقول التقرير إن مصر استثمرت في قطاعات تُشكل قواعد إمداد، لكنها لم تستثمر إلا قليلاً في الصناعات التي تتطلب هذه الإمدادات، مبينًا أن أي محطة لتوليد الطاقة تحتاج إلى مصانع تستخدم كهربائها، وإلى دول تبيع لها منتجاتها لتحقيق عائد لاستثماراتها، كما أن أي ميناء بحري يحتاج إلى منطقة خلفية مُستحدثة لتحميل حاوياته بالمنتجات.
إلا أنه في المقابل أشار إلى استثمارات ضعيفة في قطاعات مثل الزراعة والصناعة، وإنتاج الكهرباء وطاقة الطرق غير مُستغلة بالشكل الأمثل.
بيع الأصول بأسعار زهيدة
ورأى التقرير أنه عندما تمثل خدمة الدين نصف النفقات، يصبح اتخاذ قرارات صعبة أمرًا لا مفر منه، إذ بلغت خدمة الدين الخارجي لمصر في السنة المالية 2023/2024 32.9 مليار دولار. وفي محاولة لتمويل التزامات خدمة الدين، لجأت مصر إلى عملية تُعرف باسم "مبادلة الديون بالأسهم" - أي بيع أسهم في شركات مساهمة عامة مربحة.
وذكر على سبيل المثال أن شركة الإسكندرية لمناولة الحاويات والبضائع، التي تُعدّ من أبرز الشركات العاملة في قطاع الموانئ المصرية حققت إيرادات بلغت 8.37 مليار جنيه مصري وأرباحًا قبل الفوائد والضرائب والإهلاك والاستهلاك بقيمة 6.09 مليار جنيه مصري للسنة المالية 2025.
وأشار التقرير إلى أن هذا النوع من الشركات تحديدًا هو ما لا يرغب أي مستثمر في بيعه. ومع ذلك، في عام 2022، استحوذت شركة أبوظبي القابضة (ADQ) على حصة 33 بالمائة في شركة الإسكندرية لمناولة الحاويات مقابل 186 مليون دولار، والآن ستستحوذ موانئ أبوظبي على حصة أغلبية تبلغ 32 بالمائة مقابل 461.2 مليون دولار.
ولفت إلى أن هذا الاتجاه يتكرر في كل القطاعات، موضحًا أنه عندما تحصل دولة ما على أموال لسداد ديونها عن طريق بيع مواردها المدرة للدخل، فإن هذا ليس إعادة هيكلة بل حل مالي قصير الأجل، وفق التقرير.
ويبرز على الجانب الآخر أن المستثمرين الأجانب لا يقومون ببناء مصانع جديدة في مصر، بل يشترون شركات ناجحة قائمة بالفعل. وهذا جانب بالغ الأهمية، فالاستثمار في مشاريع جديدة كليًا يضيف طاقة إنتاجية وفرص عمل، بينما يستحوذ المستثمرون على أصول قائمة ويغيرون ملكية التدفقات النقدية الحالية. وهذا يعني بالنسبة لمصر أن تدفق الدولارات لا يعدو كونه تأجيلاً للمشكلة.
البيع ضرورة حتمية
أعلن البنك المركزي المصري أن تكلفة خدمة الدين ستصل إلى 22.46 مليار دولار بحلول عام 2025. في الوقت نفسه، انخفضت إيرادات قناة السويس بنسبة 40 بالمائة في الربع الأول من عام 2025، مما أدى إلى خسائر بقيمة 7 مليارات دولار نتيجة لهجمات الحوثيين.
وبالنظر إلى الوضع الراهن، فإن مصادر الإيرادات الرئيسة بالدولار تتعرض لضغوط متزايدة في حين تتزايد تكلفة خدمة الدين، مما يجعل بيع الوحدات الربحية المتبقية ضرورة حتمية، مهما كانت مؤلمة، كما يشير التقرير.
العجز الاجتماعي
مع ذلك، رأى أن هذه المؤشرات الاقتصادية لا تمثل سوى جانب واحد من هذه القضية. ففي إطار برنامج الحماية الاجتماعية، أعلنت الحكومة عن زيادة في معاشات 13 مليون مصري بنسبة 15 بالمائة لتصل إلى 74 مليار جنيه مصري، بالإضافة إلى زيادة أخرى بنسبة 15 بالمائة في معاشات التكافل والكرامة بقيمة 5.5 مليار جنيه مصري.
وقال إن هذه المبالغ ليست مجرد أرقام، بل هي رمز لعدد الأسر المتضررة من انخفاض قيمة العملة نتيجة تراجع القدرة الشرائية.
وتكمن المفارقة في هذا الوضع - كما يقول التقرير- في أن مصر قد راكمت فائضًا في القدرات الإنتاجية في جميع القطاعات تقريبًا، بما في ذلك الكهرباء والعقارات وحتى مزارع الأسماك.
ومع ذلك، ارتفعت الأسعار بشكل حاد بدلاً من أن تنخفض. فيما اعتبر أن التفسير الوحيد لارتفاع الأسعار في ظل توفر القدرات الإنتاجية وانخفاض الاستهلاك هو انخفاض الطلب. فالقدرات الإنتاجية متوفرة، لكن التمويل اللازم لشرائها غير متوفر.
هل من سبيل للمضي قدمًا؟
يقول أمبروز إيفانز بريتشارد، كاتب عمود في صحيفة "ديلي تلجراف": "إن مشكلة مصر ليست استثنائية، بل هي بالتأكيد درسٌ بليغ" . فقد تخلفت سريلانكا، التي خصصت 52 بالمائة من ميزانيتها لسداد ديونها، عن سداد قروض العام الماضي بقيمة 51 مليار دولار. أما مصر، فلم تتخلف حتى الآن عن سداد قروضها.
وعزا ذلك جزئيًا إلى المساعدات المقدمة من دول الخليج، ومنها مذكرات التفاهم التي أُبرمت العام الماضي مع الإمارات العربية المتحدة لاستثمار بقيمة 35 مليار دولار في مشروع تطوير منطقة رأس الحكمة الساحلية، بالإضافة إلى 22 مليار دولار أخرى من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي.
لكن السؤال الأهم هو: هل ستتمكن مصر من التحول من اقتصاد قائم على البنية التحتية إلى اقتصاد قائم على الإنتاج قبل نفاد مواردها التصديرية؟، يجيب التقرير بأن مصر تحتاج إلى استثمارات في الصناعة والزراعة، لا في الطرق، وتحتاج إلى قطاعات موجهة للتصدير، لا إلى مناطق سكنية باهظة الثمن.
ارتفعت نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 42.9 بالمائة في ديسمبر 2024، بينما تُقدّر مدفوعات الفائدة المُدرجة في ميزانية العام المالي 2024/2025 بنحو 1.83 تريليون جنيه مصري، أي ما يُعادل 11 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي.
مع ذلك، رأى التقرير أن هذا الوضع يُمكن السيطرة عليه، لكن الحقيقة أن دولًا أخرى تعافت من أوضاع أسوأ. لقد حان الوقت لتغيير هذا المسار من خلال التركيز بشكل أكبر على محركات التنمية بدلًا من التركيز على مظاهرها.
ويعتقد الدكتور الصادي أن "الاقتصاد المصري قد يكون يعيش على وقت مستعار. لا تكمن المشكلة في الوقت نفسه، بل في كيفية استغلاله، وكيفية استثماره، وتداعيات ذلك على الأصول التي كان من الممكن الاستفادة منها في الاقتصاد المصري. ففي كل مرة تنتقل فيها ملكية مرفق ميناء في صفقة بيع، تنتقل كل الأعمال التجارية المربحة من أيدي مصرية إلى أجنبية؛ إنها ليست مجرد ضخ رأسمالي قصير الأجل، بل هي ثلاثون عامًا من النشاط الاقتصادي الضائع".
وخلص التقرير إلى أن البنية التحتية بدون إنتاج تشبه مسرحًا بدون ممثلين. تبدو جميلة جدًا، ومكلفة الصيانة، لكنها فارغة.
https://www.middleeastmonitor.com/20251227-egypts-economy-when-infrastructure-outpaces-production/

