لم تكن جولة الإعادة لانتخابات مجلس النواب في دائرة إمبابة والمنيرة الغربية مجرد محطة إجرائية لحسم المقعد الثاني، بل تحولت إلى ساحة معركة مفتوحة تكشفت فيها كل أدوات الحشد السياسي، من "المال الانتخابي" إلى "التدخل الأمني". فبينما كان الناخبون يتوافدون على اللجان وسط أجواء مشحونة، كانت الكواليس تضج بوقائع الرشاوى التي وصلت إلى 200 جنيه للصوت، واعتقالات طالت أعضاء حملات انتخابية، في مشهد أعاد للأذهان ممارسات قديمة تهدد نزاهة العملية الديمقراطية.

 

المنافسة الشرسة بين وليد المليجي، مرشح حزب الأغلبية "مستقبل وطن" (رمز القلم، رقم 1)، والنائبة السابقة والمرشحة المستقلة نشوى الديب (رمز الحصان)، تجاوزت حدود الدعاية التقليدية لتصل إلى حرب تكسير عظام، استُخدمت فيها "ساندوتشات المندوبين" كأدلة إدانة، والجمعيات الخيرية كغطاء لشراء الأصوات، مما جعل هذه الجولة الأكثر سخونة وجدلاً في محافظة الجيزة.

 

بورصة الأصوات: "الميكروباص" و"الجمعية" كلمة السر

 

رصدت التقارير الميدانية تحولاً دراماتيكياً في سلوك الناخبين، حيث لعب "المال السياسي" دوراً محورياً في توجيه الأصوات. ففي المنيرة الغربية، تحولت المدارس إلى نقاط تجمع لسيارات "ميكروباص" تابعة لحملة مرشح "مستقبل وطن"، تنقل الناخبين -خاصة النساء وكبار السن- من منازلهم إلى اللجان. ووفقاً لشهادات حية، لم يكن النقل مجانياً فحسب، بل كان مصحوباً بوعود أو منح فورية لمبالغ مالية تصل إلى 200 جنيه، يتم صرفها أحياناً عبر وسطاء أو جمعيات خيرية تلعب دور "السمسار الانتخابي".

 

تروي إحدى الناخبات أمام مدرسة خديجة بنت خويلد كيف تم تجميع بطاقات الرقم القومي داخل مقر جمعية أهلية، وتسجيل الأسماء، ثم شحنهم جماعياً للتصويت، في مشهد يعكس تنظيماً دقيقاً لعملية "شراء الذمم" بعيداً عن أعين الرقابة الرسمية، أو ربما بتغاضٍ منها.

 

الداخلية تدخل على الخط: وجبات "مشبوهة" واعتقالات

 

في تطور لافت، دخلت الأجهزة الأمنية طرفاً في المعادلة، ولكن ليس لضبط راشي الأصوات، بل لملاحقة حملة المرشحة المستقلة نشوى الديب. فقد أعلنت وزارة الداخلية القبض على ثلاثة أشخاص بتهمة "توجيه الناخبين" وبحوزتهم وجبات غذائية، في إشارة ضمنية لحملة الديب. من جانبها، ردت المرشحة المستقلة بتصريحات نارية، مؤكدة أن المقبوض عليهم هم عضوة بحملتها وصاحب مطعم كان يجهز وجبات إطعام لمندوبيها الشرعيين داخل اللجان، واصفة ما يحدث بـ"الإرهاب الانتخابي" الذي يهدف لعرقلة مسيرتها لصالح مرشح الحزب الحاكم.

 

هذا التدخل الأمني الانتقائي أثار تساؤلات حول حيادية أجهزة الدولة، خاصة بعد بث مباشر للديب استغاثت فيه برئيس الجمهورية لوقف "الترهيب"، وهو ما قوبل بنفي رسمي من الداخلية التي تمسكت برواية "تطبيق القانون على الجميع"، رغم أن الكاميرات لم ترصد أي توقيفات مماثلة في المعسكر الآخر الذي يوزع الأموال علناً.

 

معركة "كسر العظم": المستقلون في مواجهة الماكينة الحزبية

 

تعكس أحداث إمبابة صراعاً أوسع بين "الماكينة الحزبية" الضخمة لحزب مستقبل وطن، المدعومة بالمال والنفوذ، وبين المرشحين المستقلين الذين يحاولون البقاء في المشهد اعتماداً على رصيدهم الشعبي السابق. نشوى الديب، التي تخوض المعركة كـ"المرأة الحديدية" في الدائرة، تجد نفسها محاصرة ليس فقط بمنافس قوي، بل ببيئة انتخابية تبدو مصممة لإقصاء المستقلين.

 

وفي المقابل، يسعى وليد المليجي لتكريس هيمنة الحزب على مقاعد الجيزة، مستغلاً شبكة علاقات واسعة وقدرة تنظيمية فائقة على الحشد. ورغم أن المرشح المستقل أحمد العجوز نجح في حسم المقعد الأول، إلا أن "معركة المقعد الثاني" تبدو وكأنها خط دفاع أخير للحزب لاستعادة هيبته في الدائرة الشعبية، حتى لو تطلب الأمر استخدام كل الأسلحة المتاحة، المشروعة وغير المشروعة.

 

في النهاية، تظل نتيجة الصندوق معلقة، لكن النتيجة المؤكدة التي رصدها الجميع هي أن الديمقراطية في إمبابة تئن تحت وطأة الـ 200 جنيه، وأن نزاهة العملية الانتخابية باتت، كالوجبات المضبوطة، قيد التحفظ والاشتباه.