في أحدث حلقة من مسلسل الرد الفلسطيني على جرائم الإبادة، استيقظ شمال إسرائيل يوم الجمعة على وقع عملية مزدوجة (دهس وطعن) نفذها شاب فلسطيني، أسفرت عن مقتل إسرائيليين اثنين وإصابة 7 آخرين، في مشهد يعكس تصاعد حالة الاحتقان والغليان التي تعيشها الأراضي الفلسطينية.

 

الحادث الذي بدأ في "بيت شان" وامتد حتى مشارف "العفولة"، لم يكن حدثاً معزولاً، بل جاء كرد فعل عنيف ومباشر على سلسلة من الانتهاكات والجرائم المتواصلة التي ترتكبها قوات الاحتلال والمستوطنون بحق الفلسطينيين، والتي كان آخرها قبل ساعات فقط، حين دهس جندي إسرائيلي فلسطينياً كان يصلي بخشوع على جانب الطريق في الضفة الغربية.

 

هذه العملية النوعية، التي اخترقت العمق الإسرائيلي وتجاوزت الحواجز الأمنية، أعادت تسليط الضوء على فشل سياسة "القبضة الحديدية" التي تنتهجها حكومة الاحتلال.

 

فبينما تسعى إسرائيل لكسر إرادة المقاومة عبر الاغتيالات والاقتحامات اليومية لمدن الضفة، يخرج الرد من حيث لا تحتسب، ليؤكد أن العنف لا يولد إلا عنفاً مضاداً، وأن سياسة الإذلال والتنكيل اليومي بالفلسطينيين لن تمر دون ثمن، لتظل دائرة الانتقام مفتوحة، تغذيها دماء الضحايا وإصرار شعب يرفض الموت بصمت.

 

تفاصيل "رحلة الموت": اختراق أمني وعملية متدحرج

 

بدأت فصول العملية صباح الجمعة، حين انطلق المنفذ، الذي تبين لاحقاً أنه من بلدة "قباطية" قرب جنين، في رحلة قصاص عبر عدة محطات. وفقاً لرواية هيئة البث الإسرائيلية، بدأ الهجوم بعملية دهس في "بيت شان"، أصاب خلالها إسرائيلياً (68 عاماً) بجروح قاتلة أودت بحياته لاحقاً.

 

لم يتوقف المنفذ هنا، بل واصل مسيره ليصطدم بمركبة أخرى عند تقاطع "تل يوسف"، حيث ترجل وقام بطعن أفيف مأور (19 عامًا) حتى الموت، في تصعيد دراماتيكي للموقف.

 

 

انتهت الرحلة عند مدخل مدينة العفولة، حيث حاول المنفذ استكمال هجومه برشق الحجارة قبل أن يستشهد برصاص مسلح إسرائيلي.

 

التحقيقات الأولية لجيش الاحتلال كشفت أن المنفذ دخل إسرائيل كـ"مقيم غير شرعي" قبل أيام، متجاوزاً الإجراءات الأمنية المشددة، مما يشير إلى ثغرة أمنية كبيرة وإصرار على تنفيذ العملية.

 

الرد الإسرائيلي جاء فورياً وتقليدياً، حيث أصدر وزير الدفاع يسرائيل كاتس أوامر بشن هجوم عسكري على مسقط رأس المنفذ في "قباطية"، معززاً القوات في مناطق التماس، في خطوة يرى مراقبون أنها "عقاب جماعي" لن يزيد الوضع إلا اشتعالاً.

 

"دهس المصلين": الشرارة التي أشعلت الفتيل

 

لا يمكن قراءة عملية "بيت شان" بمعزل عما حدث قبلها بيوم واحد، في جريمة هزت الضمير الإنساني ووثقتها الكاميرات. فقد أقدم جندي احتياط إسرائيلي، بدم بارد، على دهس مواطن فلسطيني بسيارته الرباعية الدفع بينما كان يؤدي الصلاة على جانب طريق في الضفة الغربية.

 

المشهد الذي بثه التلفزيون الفلسطيني أظهر الجندي وهو يتعمد الانحراف بمركبته ليصدم المصلي الأعزل، في تصرف وصفه حتى جيش الاحتلال بأنه "مخالفة خطيرة"، وإن اكتفى بمصادرة سلاح الجندي ووضعه قيد الإقامة الجبرية، دون عقوبة رادعة حقيقية.

 

هذا الحادث، الذي يضاف إلى سجل طويل من اعتداءات المستوطنين والجنود، يمثل "الوقود" الذي يحرك مشاعر الغضب والانتقام لدى الشباب الفلسطيني. فعندما يرى الفلسطيني أن حياته وعبادته مستباحة، وأن الجلاد يفلت من العقاب، يصبح خيار "الرد بالمثل" هو السبيل الوحيد لاستعادة الكرامة المهدورة، مما يخلق بيئة خصبة لعمليات فردية يصعب التنبؤ بها أو منعها أمنياً.

 

إحصائيات الدم: عام العنف غير المسبوق

 

تأتي هذه الأحداث لتتوج عاماً دموياً هو الأعنف في الضفة الغربية منذ عقود. فوفقاً لبيانات الأمم المتحدة، سقط أكثر من ألف شهيد فلسطيني في الضفة وحدها منذ 7 أكتوبر 2023، سواء برصاص الجيش أو بهجمات المستوطنين المسلحة، مقابل مقتل 57 إسرائيلياً في عمليات فلسطينية.

 

هذه الأرقام المفزعة تكشف عن حجم الاختلال في ميزان القوى، لكنها تكشف أيضاً عن حقيقة استراتيجية: القتل لا يجلب الأمن لإسرائيل.

 

تصاعد هجمات المستوطنين، التي تجاوزت 750 هجوماً مسجلاً هذا العام، حولت حياة الفلسطينيين في القرى والبلدات المحاذية للمستوطنات إلى جحيم يومي. ومع استمرار سياسة الاستيطان وتهويد الأرض، وغياب أي أفق سياسي للحل، يبدو أن الضفة الغربية تتجه بخطى متسارعة نحو انفجار شامل.

 

فكل عملية دهس أو طعن فلسطينية هي في جوهرها "صرخة يأس" ومقاومة ضد منظومة احتلال تسعى لمحو الوجود الفلسطيني، وكل رد إسرائيلي عسكري هو صب للزيت على النار، في حلقة مفرغة يدفع ثمنها المدنيون من الجانبين، ويبقى الشعب الفلسطيني مصمماً على حقه في الدفاع عن نفسه وأرضه مهما غلت التضحيات.