في خطوة جديدة تكرس نهج "إدارة الفشل بالقمع"، تمضي حكومة النظام المصري في طريقها نحو إقرار تعديلات تشريعية تقضي بتغليظ عقوبات المرور بشكل غير مسبوق، فارضة غرامات باهظة تصل لآلاف الجنيهات وعقوبات سالبة للحرية، تحت ذريعة براقة هي "تحقيق الردع العام" والحد من نزيف الأسفلت.
إلا أن قراءة متأنية لهذا التوجه تكشف عن "خدعة كبرى"؛ فالسلطة التي تشهر سيف القانون في وجه السائقين هي ذاتها التي تغض الطرف عمداً عن المتهم الأول في مجازر الطرق: منظومة الفساد الهندسي وسوء التخطيط التي تديرها "جهات سيادية" فوق المساءلة. وبينما يُحاصر المواطن بين مطرقة الغرامات وسندان الحبس، تظل الهيئات المسؤولة عن رداءة الطرق وانهيار الكباري بمأمن من أي حساب، في معادلة مقلوبة تحول الضحية إلى جانٍ، وتمنح الجاني الحقيقي صك البراءة الدائم.
القضية إذن ليست "سلامة مرورية" كما يروج الإعلام الرسمي، بل هي عملية "هندسة مالية" لجيوب المواطنين لسد عجز الموازنة، بالتوازي مع "هندسة إفلات من العقاب" للمؤسسة العسكرية التي احتكرت قطاع الطرق والبنية التحتية، وحولته إلى "صندوق أسود" لا تدخله رقابة ولا يطوله قانون.
"طرق الموت".. عندما تقتل الدولة مواطنيها بـ"التصميم الفاسد"
المفارقة الصارخة في القوانين الجديدة أنها تفترض "مثالية" الطريق و"جرم" السائق، متجاهلة واقعاً كارثياً يشهد عليه الجميع. فالوقائع على الأرض تؤكد أن النسبة الأكبر من الحوادث القاتلة لا تعود لرعونة القيادة بقدر ما تعود لعيوب فنية قاتلة في تصميم الطرق وتنفيذها. طرق تُفتتح بمهرجانات دعائية صاخبة، ثم تنهار بعد أشهر قليلة أمام أمطار موسمية خفيفة في بلد جاف، أو تظهر فيها التشققات والهبوط الأرضي قبل أن يجف حبر عقودها.
هذه "المشاريع القومية" التي يُباهي بها النظام، غالباً ما تفتقر لأبسط معايير السلامة العالمية: منحنيات مفاجئة بلا إنذار، غياب للإضاءة، استخدام خامات رديئة ومغشوشة لتقليل التكلفة وزيادة "هامش الربح" للمقاولين من الباطن التابعين للمنظومة. ورغم تكرار مشاهد انهيار الكباري وسقوط أجزاء منها، لم يُفتح تحقيق جاد واحد، ولم يقف مسؤول واحد خلف القضبان. والسبب معروف: الجهة المنفذة هي "الهيئة الهندسية للقوات المسلحة"، والجهة المشرفة هي ذاتها، والمراقب غائب قسراً. في هذا المناخ، يصبح تغليظ العقوبة على السائق نوعاً من العبث، كمن يعاقب المريض على مرضه بينما الطبيب يدس له السم في الدواء.
الفريق كامل الوزير.. نموذج "اللا محاسبة" وتدوير الفشل
تتجسد أزمة "غياب المساءلة" بشكل فج في شخصية الفريق كامل الوزير، الذي يمثل "أيقونة" لنموذج الإدارة العسكرية للملف المدني. الرجل الذي ترأس الهيئة الهندسية لسنوات، وأشرف على تنفيذ شبكة الطرق التي تعاني اليوم من مشكلات هيكلية، لم يُساءل عن تلك العيوب، بل كافأه رأس النظام بتعيينه وزيراً للنقل، ثم وزيراً للصناعة، في عملية "تدوير للمناصب" تضرب بعرض الحائط مبدأ الكفاءة والمحاسبة.
تحت إدارة "الوزير"، تحولت وزارة النقل إلى ما يشبه "كتيبة عسكرية" تُدار بالأوامر المباشرة لا بالدراسات العلمية، وتعتمد "الإسناد المباشر" كآلية وحيدة لتنفيذ المشروعات بعيداً عن مناقصات شفافة تضمن الجودة والسعر العادل. هذا النمط الإداري ألغى دور الأجهزة الرقابية مثل "الجهاز المركزي للمحاسبات"، وجعل من المستحيل تتبع خيوط الفساد أو معرفة أين تذهب المليارات المخصصة للطرق. وحين تقع الكارثة، يكون "العنصر البشري" (السائق أو عامل التحويلة) هو الشماعة الجاهزة دائماً، بينما يبقى الجنرالات الذين وافقوا على التصميمات المعيبة واستلموا الطرق المغشوشة في مكاتبهم المكيفة، يخططون لمزيد من "الإنجازات" الوهمية.
"الجباية" أولاً.. قانون لتمويل العجز لا لحماية الأرواح
في ظل أزمة اقتصادية طاحنة وتضخم يلتهم الدخول، ينظر الشارع المصري بعين الريبة لتوقيت تغليظ العقوبات. فالحكومة التي رفعت الدعم عن المحروقات وزادت أسعار الخدمات، تجد في "قانون المرور" باباً خلفياً لفرض ضرائب غير مباشرة تحت مسمى "غرامات". الغرامات التي تصل لآلاف الجنيهات لا تتناسب بأي حال مع دخل المواطن المصري، وتتحول من أداة "ردع" إلى أداة "إفقار".
إن المنطق "الجبائي" يطغى على المنطق "الإصلاحي"؛ فلو كانت الدولة حريصة حقاً على الأرواح، لوجهت هذه المليارات لإصلاح "النقاط السوداء" في الطرق التي تتكرر فيها الحوادث، أو لتركيب أنظمة إنارة وإشارات ذكية، أو لصيانة الفواصل المتهالكة في الكباري. لكن الواقع يقول إن الحكومة تفضل الحل الأسهل والأكثر ربحية: تحويل المواطن إلى "مشروع استثماري" يتم استنزافه مالياً عند كل كمين وكل رادار، بذريعة مخالفات قد يكون سببها الأصلي غياب اللوحات الإرشادية أو تهالك الطريق نفسه.
الخلاصة أن تعديلات قانون المرور الجديدة ليست سوى حلقة في سلسلة إجراءات تهدف لترسيخ سلطة "الجباية والقمع"، حيث يُعاقب المواطن مرتين: مرة بدفع حياته ثمناً لفساد الطرق، ومرة بدفع ماله ثمناً لعجز الموازنة، بينما يظل "أسياد الطرق" من ذوي النفوذ فوق القانون وفوق الحساب.

