في أحدث فصول سياسة "بيع الأصول" التي ينتهجها نظام قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي، لسد فجوة الديون المتراكمة نتيجة سياساته الاقتصادية الفاشلة، تقدم جهاز قطر للاستثمار بعرض رسمي لشراء أرض مقر الحزب الوطني "المنحل" في قلب ميدان التحرير بعد أن وضعته حكومة مصطفى مدبولي رئيس وزراء السيسي للبيع لمن يدفع بالدولار.

 

هذه الخطوة، التي يتم تسويقها على أنها "استثمار" لتشييد فندق سياحي فاخر، لا تمثل مجرد صفقة تجارية، بل هي عملية محو لذاكرة ثورة يناير التي أشعلت النيران في هذا المبنى كرمز للفساد والطغيان، واستبدالها بمشروع رأسمالي يخدم الأثرياء والأجانب، في دلالة واضحة على طبيعة النظام الحالي الذي يرى في تاريخ مصر ومقدراتها مجرد "سلع" قابلة للبيع لمن يدفع أكثر.


إن التهافت على بيع هذه الأرض تحديداً، ذات الموقع الاستراتيجي على كورنيش النيل بمساحة تزيد عن 16 ألف متر مربع، لا يعكس قوة الاقتصاد أو جاذبيته للاستثمار كما يروج إعلام النظام ، بل يكشف عن حالة "الإفلاس" التي وصلت إليها الحكومة، والتي باتت مستعدة للتفريط في أكثر الأصول رمزية مقابل حفنة من الدولارات لسداد فوائد ديون لا تتوقف عن النمو.


"بيع بالقطعة".. سياسة الإفلاس تطرح تاريخ مصر في مزاد علني

 

تحت غطاء "برنامج الطروحات الحكومية"، تمضي الحكومة في خطة ممنهجة لتصفية أصول الدولة الأكثر قيمة، وتأتي أرض الحزب الوطني كـ"جوهرة التاج" في هذا المزاد. فبحسب مصادر حكومية، تطمح السلطة في أن تتجاوز قيمة الصفقة المليار جنيه، وهو رقم قد يبدو ضخماً بالعملة المحلية، لكنه لا يساوي سوى بضعة ملايين من الدولارات بعد الانهيار التاريخي الذي شهده الجنيه، ما يجعله ثمناً بخساً لأرض لا تقدر بثمن.

 

هذه السياسة، التي تبررها الحكومة بـ"تعظيم العائد من الأصول غير المستغلة"، هي في حقيقتها شهادة إدانة للنظام نفسه. فبدلاً من أن تقوم الدولة بتطوير هذه الأصول بنفسها عبر رؤية وطنية تخدم المجتمع، أو طرحها للشراكة بشروط تحفظ حق الدولة، فإنها تلجأ إلى البيع المباشر والمذل. إن رفض معظم العروض السابقة المقدمة من 11 تحالفاً استثمارياً بسبب "تدني أسعارها"، يكشف أن السوق يدرك حالة "الاضطرار" التي تعيشها الحكومة ويحاول استغلالها للحصول على الأصول بأسعار متدنية ، مما يحول العملية برمتها إلى "بيع اضطراري" وليس خطة استثمارية مدروسة.

 

شهادة فشل.. هروب المستثمرين وتخبط الصندوق السيادي

 

تعد قصة هذه الأرض شهادة حية على فشل السياسات الاقتصادية للنظام. فقبل العرض القطري، كان تحالف سعودي-إماراتي (مجموعة الشعفار والشركة السعودية المصرية للتعمير) قد فاز بالفعل بتطوير المشروع في عام 2023. لكن هذا التحالف سرعان ما انسحب في العام التالي، والسبب المعلن كان "ارتفاع تكاليف البناء عقب انخفاض قيمة الجنيه".

 

هذا الانسحاب ليس مجرد تفصيلاً عابراً، بل هو "تصويت بحجب الثقة" في اقتصاد النظام. فعندما يهرب المستثمرون الخليجيون، الذين يُفترض أنهم الأقرب سياسياً واقتصادياً للنظام، بسبب انعدام الاستقرار في سعر الصرف وتآكل قيمة العملة، فهذا يعني أن مناخ الاستثمار بات طارداً للجميع. كما أن التخبط بدا واضحاً في إدارة الملف من قبل "صندوق مصر السيادي"، الذي قام في أغسطس 2023 بخطوة غريبة عبر تقسيم ملكية الأرض بين شركتين تابعتين له (نايلوس الفندقية ونايلوس السكنية). هذه الخطوة التي بدت وكأنها تمهيد لصفقة معقدة، تعكس غياب الرؤية الواحدة وتعدد الأيدي التي تتصارع على "الكعكة"، بدلاً من وجود خطة تطوير واضحة المعالم.

 

صفقة سياسية بغطاء استثماري.. قطر تقتنص "رمزية التحرير"

 

يأتي العرض القطري ليضيف بعداً سياسياً للصفقة. فبعد سنوات من القطيعة والاتهامات المتبادلة، أصبحت الاستثمارات القطرية هي طوق النجاة الذي يتعلق به النظام المصري للخروج من أزمته الدولارية. هذا يجعل العرض القطري أقرب إلى كونه "صفقة سياسية" مغلفة بغطاء استثماري، حيث تقتنص الدوحة أحد أهم الأصول الرمزية في القاهرة، مستغلة حاجة النظام الماسة للسيولة.

 

إن تحويل هذا المكان، الذي شهد على صعود وهبوط نظام مبارك، والذي ارتبط في أذهان المصريين بالثورة والحرية، إلى مجرد "فندق سياحي" فاخر، هو رسالة بليغة من النظام الحالي بأن زمن الثورات قد ولى، وأن كل شيء، بما في ذلك ذاكرة الشعب ورموز نضاله، معروض للبيع. فالمشروع الذي قُدرت تكلفته سابقاً بنحو 5 مليارات دولار لإنشاء برج بارتفاع 220 متراً ، يُباع اليوم بثمن زهيد، ليؤكد أن حكومة الانقلاب لا تجيد سوى إدارة "الخراب" وبيع أنقاض الماضي لسداد ديون الحاضر، دون أي اعتبار لمستقبل الأجيال القادمة.