أخد حقوقنا وبيقول أنا أمن دولة".. كيف باعت شركة "زد عبر البحار" رجالها وهددتهم؟
في واقعة تكشف عن الوجه القبيح لرأس المال الذي يقتات على أعمار البسطاء ثم يلفظهم عند أول منعطف، استيقظ عشرات العمال في شركة "زد عبر البحار للحراسة والخدمات" (Z-Overseas) على كابوس مكتمل الأركان. فبدلاً من تكريمهم على رحلة شقاء امتدت لثلاثة عقود، وجدوا أنفسهم وقوداً لصفقة بيع غامضة، حيث قررت الشركة في خطوة مفاجئة تصفية أصولها وبيع مقراتها وسياراتها في منطقة مصر الجديدة، ليكون أول بنود "إعادة الهيكلة" المزعومة هو ذبح العمالة القديمة وتسريحهم دون أدنى اعتبار للقانون أو الإنسانية.
المشهد أمام أبواب الشركة المغلقة في "50 شارع نزيه خليفة" لم يكن مجرد وقفة احتجاجية، بل كان عزاءً جماعياً لرجال أفنوا زهرة شبابهم في حراسة أموال الغير، لينتهي بهم الحال "حراساً للرصيف"، يستجدون حقوقهم المسلوبة أمام أبواب موصدة وجحود إداري لا يعرف سوى لغة التهديد.
صفقة "الهروب الكبير".. بيع الأصول ودهس الحقوق
لم يكن قرار شركة "زد عبر البحار" -التي تأسست عام 1996 وتتباهى بكونها من الرعيل الأول لشركات الأمن في مصر- مجرد قرار إداري خاطئ، بل جريمة مكتملة الأركان مع سبق الإصرار. بدأت القصة ببيع أصول الشركة من مقرات وسيارات، في خطوة مريبة تهدف للتخفف من "الأحمال"، وكان العمال هم الحمل الأثقل الذي وجب التخلص منه.
الإدارة لم تكتفِ بالبيع، بل مارست "البلطجة الإدارية" بإجبار العمال على تقديم استقالاتهم طواعية مقابل فتات لا يسمن ولا يغني من جوع: "شهرين عن كامل مدة الخدمة". معادلة ظالمة تعني أن ثمن عمر العامل الذي قضى 30 عاماً في خدمة الشركة لا يساوي سوى راتب 60 يوماً، في وقت تضاعفت فيه أعباء المعيشة وأسعار السلع بشكل جنوني.
العمال الذين حاولوا الدخول لمقر عملهم لاستيضاح الأمر، قوبلوا بالأبواب الموصدة والمنع، مما اضطرهم لتحرير محاضر إثبات حالة بقسم شرطة مصر الجديدة، لتوثيق الجريمة قبل أن تضيع معالمها.
"أنا أمن دولة".. إرهاب العمال بسيف السلطة
لم تكتفِ الشركة بسرقة حقوق العمال المالية، بل لجأت إلى السلاح الأخطر في مصر: "الترهيب الأمني". وفقاً لشهادات موثقة بالفيديو والصوت، لم يتردد ملاك الشركة والمديرون في استخدام نفوذهم وعلاقاتهم المزعومة لتهديد العمال البسطاء. الرسالة كانت واضحة ومرعبة: "لو رفضتوا العرض مش هتطولوا ولا مليم.. احنا مسنودين".
أحد العمال صرح في مقطع فيديو متداول بمرارة: "بيهددونا بعلاقاتهم مع الأمن الوطني، وقالولنا هتعملوا شوشرة مش هتطولوا حق ولا باطل". هذا الاستقواء بمؤسسات الدولة لترويع عمال يطالبون بقوت يومهم يضع علامات استفهام كبرى حول من يحمي هؤلاء المستثمرين، وكيف تتحول علاقات النفوذ إلى سيف مسلط على رقاب الفقراء بدلاً من تطبيق القانون.
هذا التهديد لم يكن فردياً، بل منهجية لإسكات الأصوات، حيث أكد العمال أنهم يعملون بعقود غير محددة المدة ومؤمن عليهم، مما يجعل تسريحهم بهذه الطريقة مخالفة صريحة لقانون العمل، لكن الإدارة تراهن على "الخوف" لكسر إرادة الرجال.
إعدام اجتماعي لمن تجاوزوا الخمسين
المأساة الحقيقية لا تكمن فقط في ضياع المال، بل في توقيت الضربة. معظم العمال المسرحين تخطت أعمارهم الـ50 عاماً، وبعضهم خدم في الشركة لمدة 33 عاماً متواصلة. تسريح عامل في هذا السن هو حكم بالإعدام المهني والاجتماعي في سوق عمل لا يرحم ولا يقبل بتوظيف كبار السن.
صرخات العمال لخصت هذا الوجع: "مين اللي هيشغلنا بعد ما وصلنا للسن ده؟ عندنا ولاد في مدارس وجامعات". الشركة التي كانت تفتخر بنقل وتداول الأموال لعمالقة البنوك مثل "البنك العربي الأفريقي" و"المقاولون العرب"، لم تجد في خزائنها المصفحة ما يكفي لدفع مكافأة نهاية خدمة كريمة لرجال حموا هذه الأموال بدمائهم وأعمارهم.
بدلاً من زيادة الأجور لمواجهة الغلاء الطاحن، قررت "زد عبر البحار" أن الحل الأسهل هو رمي العمال في الشارع، في رسالة واضحة بأن "الأمان" الذي تبيعه الشركة لعملائها، هو سلعة محرمة على موظفيها.

