بعد أسابيع قليلة فقط من الافتتاح الذي رُوِّج له بوصفه حدثًا تاريخيًا يرسخ "الجمهورية الجديدة"، تحوّل المتحف المصري الكبير من مشروع يفترض أن يكون واجهة حضارية عالمية إلى عنوان ساخر على منصات التواصل الاجتماعي، بعد تسرب مياه الأمطار إلى بهوه وتشقق بلاط أرضياته وانهيار أجزاء من السور الخارجي وفق ما وثقته مقاطع متداولة.
وبينما حاول مسؤولو حكومة السيسي التقليل من حجم الكارثة واعتبار ما حدث "طبيعيًا" و"جزءًا من التصميم"، انفجرت موجة غضب وسخرية واتهامات بالفساد وسوء الإدارة، رأت في ما جرى تجسيدًا مكثفًا لعطب منظومة الحكم بأكملها، وليس مجرد خطأ هندسي عابر.
المفارقة أن المشروع الذي بلغت تكلفته أكثر من مليار دولار، واستغرق إنجازه سنوات طويلة، لم يصمد أمام أول اختبار مطري، لتتحول فتحات السقف التي قُدمت في الدعاية الرسمية كإبداع معماري للتهوية والإضاءة الطبيعية، إلى "نوافذ للغرق" تسقط منها المياه على الأرضيات وتمثال رمسيس الثاني، وفق اعتراف المسؤولين أنفسهم.
أمطار تكشف العيوب.. من السقف والسور إلى البلاط المتشقق
انطلقت شرارة الجدل مع انتشار صور ومقاطع تُظهر تسرب مياه الأمطار من سقف بهو المتحف، وانهيار أجزاء من السور الخارجي وتشقق البلاط في بعض المناطق. الفيديوهات المتداولة عبر فيسبوك عززت الانطباع بوجود خلل حقيقي في التنفيذ، خاصة مع ما أظهرته من غرق مساحات من الأرضيات بالمياه:
المفكر المصري عز الدين محمد هاجم بعنف طريقة إدارة المشروع، وسخر من أن متحفًا كلف ملايين الدولارات ويُروَّج له عالميًا، يغرق بعد "شوية مطرة"، معتبرًا ما حدث دليلًا على غياب الدولة والقانون، وأن البلد تُدار بالبلطجة والفساد، في سلسلة تغريدات نارية:
يعنى لم تبنى متحف مصر الكبير وطبعا اقترضت عليه ملايين الدولارات وعملت دعاية هائلة وبعدتها بكام أسبوع تنزل شوية مطرة يغرق المتحف . معناه أنه مفيش دوله ولا فيه قانون ولا فيه رئيس دولة ماشية بالبلطجة وحتى الفساد تعطى للناس الحق وللصحافة الحرية أن تكتب وتنتقد وأن يكون يكون هناك قانون…
— Dr Ezzeldin Mahmoud (@ezzmahmoud1) December 17, 2025
كارثة المتحف الكبير الذي تكلف ملايين الدولارات وطبعا شغل الإدارة الهندسية يعني البشوات نهبوا ملايين وقدموا شغل باله المتحف شوية مطرة دمروا المتحف والصقف وقع والزجاج كل اتكسر لانهم عقلهم في طيزهم. الزجاج كان لازم يكون مضاد للرياح القوية والسقف يتعمل بدرجة قوية لتقاوم الامطار… pic.twitter.com/NtG7htVPgD
— Dr Ezzeldin Mahmoud (@ezzmahmoud1) December 16, 2025
وفي مواجهة هذا الغضب، حاولت وزارة السياحة والآثار الدفاع عن الموقف، فنقلت عنها صحف محلية أن المياه التي تساقطت إنما سقطت على الأرضية وعلى تمثال رمسيس الثاني فقط، وأن التمثال من الجرانيت غير المتأثر بعوامل التعرية، مؤكدة أن ما حدث ليس خطأ بل "جزء من تصميم المتحف"، وأن الحل "العملي" هو التدخل البشري عند سقوط الأمطار، مع التذكير بأن المطر لا يهطل على القاهرة سوى 14 إلى 16 يومًا سنويًا، بحسب تقرير:
https://www.almasryalyoum.com/news/details/4150758
الرئيس التنفيذي للمتحف المصري، أحمد غنيم، تبنّى نفس الخطاب، حين صرّح بأن سقوط الأمطار في بهو المتحف "سيتكرر" وأنه "مصمم لاستيعاب ذلك"، مع الاعتماد على المصارف والتدخل البشري عند اللزوم:
أحمد غنيم الرئيس التنفيذي للمتحف المصري:
— قناة الشعوب الفضائية (@AlshoubBreaking) December 15, 2025
"سقوط الأمطار في بهو المتحف سيتكرر وهو مصمم لاستيعاب ذلك، وفي حالة سقوط الأمطار يتم اللجوء إلى استخدام المصارف والتدخل البشري" pic.twitter.com/6n9aKuN4Rl
في المقابل، سعى البعض لتصحيح المبالغات دون تبرئة المنظومة؛ إذ أوضح د. مصطفى جاويش أن إحدى الصور المنتشرة التي تُظهر دمارًا واسعًا هي صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي وليست حقيقية، مع تأكيده في الوقت نفسه أن تسرب المياه حدث فعلاً عبر السقف، وإن كان على نطاق أقل مما صُوِّر:
يا جماعة الخير
— دكتور مصطفى جاويش (@drmgaweesh) December 15, 2025
الصورة المرفقة هنا، والتي انتشرت بكثافة كبيرة جدا،
هي صورة مكونة بالذكاء الاصطناعي وليست حقيقية.
مياه المطر تسربت فعلا من خلال سقف المتحف،
لكنها كانت بسيطة ولم تسبب مثل هذا الخراب الموجود في الصورة.
ننتقد نعم ..ونكشف الحقيقة
لكن نكذب ونزيف ونزور.. لا. pic.twitter.com/qyCQ8FhHK4
سخرية وغضب شعبي: "تذكرة المتحف شاملة حمام السباحة؟"
منصات التواصل تحولت إلى مساحة مفتوحة للسخرية اللاذعة من "أيقونة" النظام الثقافية. الباحثة والمؤرخة المصرية د. الفت أبو السعود خاطبت السيسي مباشرة: "يا سيادة الريس #المتحف_الكبير اللي أنت افتتحته بايظ والسقف وقع والأمطار غرقته!" في تغريدة متداولة على نطاق واسع:
د. الفت أبو السعود باحثة ومؤرخة مصرية: يا سيادة الريس #المتحف_الكبير اللي أنت افتتحته بايظ والسقف وقع والأمطار غرقته ! pic.twitter.com/LSU1Vhggru
— قناة الشعوب الفضائية (@AlshoubBreaking) December 16, 2025
الحقوقية رشا آدم اختزلت الموقف في سؤال ساخر صار من أكثر التعليقات انتشارًا: "هي تذكرة المتحف شامله حمام السباحة؟"
هي تذكرة المتحف شامله حمام السباحة؟ pic.twitter.com/rvgnfl50e8
— Rosa Adam (@rosaadam0) December 14, 2025
حزب "تكنو قراط مصر" علّق على تسرب المياه بعد 40 يومًا فقط من الافتتاح، مذكرًا بأن تكلفة البناء تجاوزت المليار دولار، ثم نقل عن هيئة السياحة والآثار تبريرها المثير للجدل بأن "تسرب المياة إلى داخل المتحف المصري الكبير يعتبر أمر طبيعي ومتوقع ضمن التصميم وليس خلل":
بعد افتتاحه بـ40 يوم فقط، مياة الأمطار تتسرب إلى داخل بهو #المتحف_المصري_الكبير في القاهرة الذي كلف بنائه أكثر من 1 مليار دولار.
— حزب تكنوقراط مصر (@egy_technocrats) December 14, 2025
وهيئة السياحة والأثار تعلق : "تسرب المياة إلى داخل المتحف المصري الكبير يعتبر أمر طبيعي و متوقع ضمن التصميم وليس خلل" pic.twitter.com/92U8XQCnJK
الإعلامي د. حمزة زوبع زاد من سخونة السخرية بقوله إن تسرب المياه "طبيعي ومدروس"، متندرًا بأنه حتى لو حدث انهيار أرضي فسيُقدّم أيضًا كجزء من التصميم:
تسرب مياه المطر داخل بهو المتحف اللي لسه مفتوح من كام أسبوع طبيعي ومدروس يا جماعة ، ولو حصل إنهيار أرضي هيبقى برضه طبيعي ومدروس !
— Dr.Zawba (@drzawba) December 13, 2025
يا لطيف يارب.#المتحف_الكبير pic.twitter.com/Tgsaa0D2lK
نور عبدالحافظ تناول الموضوع في منشور مطوّل، ربط فيه بين فضيحة السقف وفتحاته غير العملية، وانهيار السور بعد يوم واحد من الافتتاح، وتشقق البلاط بعد أسبوع، معتبرًا أن ما جرى يعكس ضعف البنية التحتية وغياب لجان الاستلام والرقابة الفنية، قبل أن يوسع الدائرة ليربط بين هذه المظاهر وفساد أوسع في السياسة والاقتصاد وتزوير الانتخابات وتراكم الديون، وختم منشوره بهاشتاجات ساخرة مثل #متحف_بفتحة_سقف و #متحف_بلاطه_مكسور:
مستخدمون آخرون صبّوا جام غضبهم على النظام؛ عزة الحلوجي علّقت بقولها: "إن الله لا يصلح عمل المفسدين"، بينما سخر "المستشار محجوب الجارحي" من فكرة أن المطر كان من المفترض أن "يتلقى أوامر" بعدم الدخول من فتحة السقف.
حساب "Alp Arslan" قارن الذهنية الحالية بقصة افتتاح محور 6 أكتوبر قبل استكماله في عهد مبارك، ونشر صورة لبلاط المتحف الجديد بدا وكأنه مهترئ منذ عقود، في حين تساءلت "Ibtesam Nouman" بحسرة: "إلى متى يا مصر أم الدنيا تسكتى عن هذا المجرم المنقلب؟"، أما أحمد نايل فاختتم ساخرًا بأن "الإخوان" هم من خرّموا السقف وكسروا البلاط واتفقوا مع المطر لتنفيذ "المؤامرة":
مشروع بمليار دولار.. رمز لغياب المحاسبة لا لمجرد خطأ إنشائي
ورغم محاولات التهدئة الرسمية، فإن ما جرى في المتحف المصري الكبير تجاوز كونه "عيوب تشطيبات" أو "ملاحظات بسيطة" كما تحاول الحكومة تصويره. فتصريحات وزارة السياحة عن أن ما حدث يرتبط بـ"التجهيزات والديكورات المؤقتة" لحفل الافتتاح، وأن المياه دخلت عبر فتحات معمارية مخصصة للتهوية والإضاءة الطبيعية، مع التأكيد على أن الإصلاحات جارية وأن الآثار لم تتضرر، لم تنجح في إطفاء النار، بل اعتبرها كثيرون تعبيرًا عن منطق "الاستخفاف بالعقول".
المتحف الذي يقع بجوار أهرامات الجيزة، ويضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية بينها المجموعة الكاملة لتوت عنخ آمون، كان يفترض أن يكون أيقونة تُظهر قدرة الدولة على تنفيذ مشروع ثقافي ضخم بمواصفات عالمية. لكن ما تكشفه تسربات الأمطار وتشقق الأرضيات، وتبريرات المسؤولين بأن ما حدث "جزء من التصميم"، هو منظومة لا تعرف معنى المحاسبة؛ مقاولون يحصلون على مليارات، وجهات إشراف هندسية "سيادية" لا تُسأل، ووزارات تبرر بدلًا من أن تُحقق وتحاسب.
في النهاية، تبدو "فضيحة المتحف" تجسيدًا مصغرًا لما يصفه كثير من المعلقين بأنه نجاح ممنهج في "هدم البلد" سياسيًا واقتصاديًا ومعنويًا؛ مشروع ضخم بتمويلات وقروض، تنفيذ مشوّه، غياب للرقابة، وتجميل إعلامي لا يصمد أمام أول "شوية مطرة".

