في خطوة جديدة تؤكد انفصالها عن الواقع الاجتماعي المعيش، فجرت حكومة الانقلاب قنبلة موقوتة في وجه ملايين الأسر المصرية عبر التطبيق القسري لتعديلات قانون الإيجار القديم بدءاً من ديسمبر الجاري.
فبدلاً من طرح حلول متدرجة تراعي البعد الاجتماعي في ظل أزمة اقتصادية طاحنة، اختارت السلطة الانحياز لسياسة "الصدمة"، فارضة زيادات فلكية تصل إلى 5 أضعاف دفعة واحدة، ومشرعة أبواب الطرد والإخلاء على مصراعيها، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي وينذر بكارثة تشريد جماعي، وسط غياب تام لأي شبكة حماية اجتماعية حقيقية للمتضررين.
التحركات الحكومية الأخيرة، التي قسّمت المناطق اعتباطياً إلى "متميزة ومتوسطة واقتصادية"، لم تكن تهدف لإنصاف الملاك بقدر ما هدفت لرفع يد الدولة عن مسؤوليتها في توفير السكن البديل، وتركت المواطنين (ملاكاً ومستأجرين) يواجهون بعضهم البعض في ساحات المحاكم وأقسام الشرطة، في مشهد يصفه مراقبون بأنه "حرب أهلية باردة" تدار بقوانين جائرة وإجراءات بيروقراطية معقدة.
زيادات "وحشية" وإجراءات تعجيزية.. الجباية أولاً
لم يكد المواطن يلتقط أنفاسه من موجات الغلاء المتلاحقة، حتى صدمته المادة السادسة من التعديلات بزيادة فورية للإيجارات التجارية والمهنية بنسبة 500% (5 أضعاف)، مع زيادة سنوية مركبة قدرها 15%.
هذا القرار وصفه الخبير الاقتصادي الدكتور عبدالخالق فاروق بأنه "إجراء كارثي يفتقر للحكمة الاقتصادية"، مؤكداً أن هذه الزيادات المفاجئة ستؤدي حتماً لإغلاق آلاف الورش والمحال الصغيرة التي لا تحتمل ميزانياتها هذه القفزات، ما يعني مزيداً من البطالة والركود التضخمي، وليس "عدالة سوقية" كما تزعم الحكومة.
من جانبه، انتقد المحامي الحقوقي خالد علي فلسفة التعديلات، مشيراً إلى أن الدولة تتعامل مع ملف شائك عمره عقود بمنطق "الجباية" والحلول الأمنية، متجاهلة أن الكثير من المستأجرين هم من الفئات المهمشة ومحدودة الدخل. ويرى "علي" أن ربط الإخلاء بامتلاك وحدة بديلة أو الغلق هو "فخ قانوني"، حيث تضع الدولة عبء الإثبات المعقد على المواطنين وتنسحب هي من المشهد.
طرد "مقنن" وتشريد تحت غطاء القانون
الأخطر في التعديلات الجديدة هو تسهيل إجراءات الطرد عبر "قاضي الأمور الوقتية"، وهي آلية تتيح الإخلاء السريع في حال غلق الوحدة لأكثر من عام أو ثبوت امتلاك وحدة أخرى.
هنا، يحذر المستشار محمد حامد الجمل، رئيس مجلس الدولة الأسبق، من أن النصوص القانونية قد تكون "مطاطة" وتفتح باباً للتعسف، خاصة مع صعوبة استخراج المستندات الرسمية من شركات المرافق والشهر العقاري لإثبات حالة السكن.
ويؤكد "الجمل" أن التطبيق المتسرع دون دراسة اجتماعية دقيقة لكل حالة سيحول المحاكم إلى ساحة نزاع لا تنتهي، وقد يؤدي لظلم فادح يقع على أسر قد تكون وحدتها "المغلقة" هي ملاذ لأبناء مسافرين أو مرضى.
وفي سياق متصل، يرى الخبير العقاري المهندس حسين صبور أن التعديلات، وإن كانت تبدو في ظاهرها محاولة لتحريك المياه الراكدة، إلا أنها جاءت في "أسوأ توقيت ممكن". ويضيف صبور: "السوق العقاري يعاني أصلاً من ركود وتضخم، وضخ آلاف الوحدات فجأة للسوق أو طرد شاغليها لن يحل الأزمة بل سيخلق فوضى سعرية واجتماعية"، مشككاً في قدرة الحكومة على إدارة هذا التحول الضخم دون إحداث هزات عنيفة في المجتمع.
بيروقراطية "الشهر العقاري" وفشل الآليات التنفيذية
وعلى أرض الواقع، يصطدم المواطنون بجدار البيروقراطية الحكومية عند محاولة تنفيذ القانون. فاشتراط الحصول على "استعلام رسمي" من الشهر العقاري أو مصلحة الضرائب العقارية لإثبات الملكية البديلة تحول إلى رحلة عذاب.
ويصف الدكتور أحمد مهران، مدير مركز القاهرة للدراسات السياسية والقانونية، الإجراءات التنفيذية بأنها "حبر على ورق"، موضحاً أن الجهاز الإداري للدولة غير مؤهل للتعامل مع هذا الكم الهائل من الطلبات والتحريات.
ويؤكد "مهران" أن الحكومة ألقت بكرة النار في ملعب المواطنين، حيث يضطر المالك للقيام بدور "المخبر" لإثبات حق، بينما يصارع المستأجر لإثبات عدم قدرته، في ظل غياب قاعدة بيانات عقارية موحدة وشفافة كان يجب على الدولة توفيرها قبل إصدار أي تعديل.
النتيجة النهائية، بحسب الخبراء، هي تعقيد المشهد العقاري، وتأجيج الصراع الطبقي، وترسيخ حالة من عدم اليقين القانوني، بينما تكتفي الحكومة بدور المتفرج الذي يجني الضرائب والرسوم من وراء هذا الصراع.

