تُظهر تفاصيل هجوم سيدني أن الرواية الواقعية على الأرض تناقض تمامًا الخطاب الدعائي الذي تبناه بنيامين نتنياهو، حين سارع إلى وصف ما جرى بأنه تجلٍّ جديد لـ "معاداة السامية" وامتداد لما يسميه كراهية اليهود حول العالم، متجاهلًا عمدًا أن من واجه المنفذ وجرّده من سلاحه تحت وابل الرصاص كان مسلمًا عربيًا يُدعى أحمد الأحمد، تصدى بإرادته الحرة لحماية مشاركين في احتفال يهودي لم يعرف منهم أحدًا، لكنه رأى بشراً يُقتلون فاندفع لإنقاذهم.
هذا التناقض الفج بين وقائع الحادث وبين الخطاب الإسرائيلي الرسمي يفضح كيف يحوّل نتنياهو كل مأساة إلى أداة في معركته الدعائية لتبرير سياساته في غزة والضفة، حتى لو تطلّب الأمر محو بطولة رجل مسلم من المشهد، فقط كي تبقى صورة "اليهود الضحايا والمسلمين المعتدين" حاضرة في أذهان الغرب.
Ahmed is the Muslim hero who tackled, attacked and stopped the terrorist attack in Australia. He received 2 bullets and hospitalized for now. SALUTE AHMED! pic.twitter.com/TMUdleuURb
— Mohamed Ismail (@Mohamed71935373) December 14, 2025
أحمد الأحمد: مسلم يتقدم للرصاص لينقذ يهودًا
أحمد الأحمد، البالغ من العمر 43 عامًا، لم يكن فردًا في قوة خاصة ولا يحمل خلفية عسكرية أو تدريبًا على القتال، بل أب لطفلين وصاحب محل فواكه في ساذرلاند، صادف وجوده في المكان لحظة الهجوم فاتخذ قرارًا غريزيًا بالاندفاع نحو الخطر بينما هرع الآخرون إلى الاحتماء، فانتزع السلاح من أحد المهاجمين تحت وابل من الرصاص، ليتحول في ثوانٍ إلى خط دفاعٍ بشري حال دون سقوط مزيد من القتلى.
أُصيب أحمد برصاصتين ونُقل على وجه السرعة إلى المستشفى حيث خضع لجراحة معقدة، بينما كان رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز نفسه يصف ما فعله بأنه واحد من أكثر المشاهد إدهاشًا في حياته، مؤكدًا أن حياة عدد لا يُحصى من الأشخاص كُتبت من جديد بفضل شجاعة هذا الرجل المسلم الذي تحرك بدافع إنساني خالص لا علاقة له بدين الضحايا أو هويتهم.
في اللحظة ذاتها التي كان فيها أحمد يواجه فوهة البندقية لحماية مشاركين في فعالية يهودية، كان نتنياهو يستعد لاستثمار الحدث عبر وسائل الإعلام باعتباره دليلاً إضافيًا على "المظلومية اليهودية" و"خطر الكراهية ضد اليهود" في الغرب، متجاهلًا أن خط النار الحقيقي كان بين قاتل وبين مسلم وقف في الصف الأول دفاعًا عن يهود لا يعرفهم.
نتنياهو ومعادلة الدم: كل شيء يُستغل لخدمة الحرب
سارع نتنياهو إلى توظيف هجوم سيدني في سرديته الثابتة التي تربط أي اعتداء على أهداف يهودية حول العالم بخطاب "معاداة السامية" وبالحرب التي يشنها على غزة، في محاولة لدمج كل السياقات في سطر واحد: اليهود ضحايا دائمًا، ومنتقدو إسرائيل شركاء في الكراهية، وأي نقاش حول جرائم الاحتلال يصبح مشبوهًا أو مُمهدًا لمثل هذه الهجمات.
هذا التوظيف السياسي الوقح يتجاهل عمدًا الحقائق الأساسية: الهجوم وقع في دولة ديمقراطية تجري فيها تحقيقات مستقلة، والشرطة الأسترالية هي التي تحدد دوافع الفاعلين، كما أن الوقائع أظهرت بجلاء أن من حال دون مجزرة أكبر كان مسلمًا، أي أن المعادلة التي يحاول نتنياهو تكريسها عن "يهود في مواجهة مسلمين" انهارت على الفور أمام بطولة أحمد، ولذلك جرى إسكات هذا الجزء من القصة في خطاب تل أبيب.
الأخطر أن تحويل كل ما يمس اليهود إلى "معاداة للسامية" يُستخدم من جانب حكومة الاحتلال كدرع أيديولوجي لحماية نفسها من النقد، بحيث يصبح من يندد بقتل آلاف المدنيين في غزة أو بسياسات التطهير العرقي في الضفة متهمًا تلقائيًا بالتواطؤ مع من يطلق النار على اليهود في سيدني أو غيرها، وهو خلط متعمد بين شعبٍ متنوع دينيًا وإثنيًا وبين حكومة يمينية متطرفة تمارس أبشع أشكال العنف المنظم.
مسلم ينقذ يهودًا.. وحكومة الاحتلال تواصل شيطنة المسلمين
المشهد الأخلاقي في سيدني كان واضحًا حد الفجاجة: حشد يهودي يحتفل بعيد ديني، مسلح يطلق النار بدمٍ بارد، ووسط الفوضى يندفع مسلم أعزل تقريبًا نحو الرصاص لينقذ من يمكن إنقاذه، فيتجسد أمام العالم نموذج عملي لقيم الشجاعة والتضحية العابرة للهويات، لكن ما إن انتشر الفيديو حتى تحركت ماكينة الدعاية الإسرائيلية لتهميش هوية هذا البطل قدر الإمكان، لأنها تقوّض رواية كاملة بُنيت على تصوير المسلمين كتهديد وجودي لليهود في كل مكان.
أنقذ أحمد الأحمد، بقراره الفردي الشجاع، أرواح يهودية لم يميزها عن غيرها، بينما تنفذ حكومة نتنياهو في غزة سياسات عقاب جماعي لا تفرّق بين طفل وامرأة ومقاتل، ثم تتحدث بلا خجل عن "قدسية الحياة اليهودية" و"معاداة السامية"، في تناقض أخلاقي صارخ يجعل شجاعة بقال مسلم في سيدني أسمى من كل خطابات تل أبيب في الأمم المتحدة والعواصم الغربية.
ما حدث في سيدني يفضح زيف الثنائية التي يحاول نتنياهو فرضها على العالم؛ فليست هناك حرب بين "اليهود" و"المسلمين"، بل بين مشروع استعماري عنصري يسعى لاحتكار صفة الضحية وبين ملايين البشر، مسلمين وغير مسلمين، يرفضون القتل والظلم أينما كان، ويثبتون بالفعل لا بالشعارات أن إنقاذ حياة إنسان واحد – أيًّا كان دينه – في ميزان الأخلاق أثمن من كل استثمار سياسي خسيس في الدم والدموع.

