في جريمة نكراء تعكس حجم الفوضى والانهيار الأمني الذي يشهده السودان، وتلقي بظلال كثيفة من الشك حول جدوى البعثات الأممية وقدرتها على حماية نفسها، فضلاً عن حماية المدنيين، استيقظ العالم فجر السبت على مجزرة مروعة راح ضحيتها ستة جنود من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، جميعهم من الجنسية البنغلاديشية، بالإضافة إلى إصابة ثمانية آخرين في هجوم غادر بطائرات مسيرة استهدف معسكر البعثة الأممية (يونيسفا) في مدينة كادوقلي، عاصمة ولاية جنوب كردفان.
هذا الهجوم، الذي وُصف بـ "المروع" على لسان الأمين العام للأمم المتحدة، لا يمثل فقط استهدافاً مباشراً لـ "الخوذ الزرق"، بل هو إعلان صارخ بأن أطراف الصراع لم تعد تعبأ بأي خطوط حمراء أو قوانين دولية، مما يهدد بنسف العملية السلمية الهشة بأكملها ويفتح الباب أمام مرحلة أكثر دموية من الحرب الأهلية. الحادث فجر على الفور حرب اتهامات عنيفة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، كاشفاً عمق الانقسام ورافعاً منسوب التوتر إلى مستويات غير مسبوقة في إقليم كردفان الاستراتيجي.
تفاصيل "الكمين الجوي".. نار تلتهم معسكر السلام
وفقاً لمصادر متطابقة من داخل البعثة الأممية وبيان الجيش البنغلاديشي الرسمي، لم يكن الهجوم عشوائياً. ثلاث طائرات مسيرة، مجهولة الهوية حتى اللحظة بشكل قاطع، حلقت في سماء كادوقلي مساء السبت، وتوجهت مباشرة نحو القاعدة اللوجستية لـ "يونيسفا". نجحت إحدى المسيرات في إصابة هدفها بدقة قاتلة، حيث استهدفت محطة الوقود داخل المعسكر، مما أدى إلى انفجار هائل واندلاع حريق ضخم فاقم من حجم الكارثة. هذا الاستهداف الدقيق يشير إلى وجود معلومات استخباراتية لدى الجهة المنفذة حول نقاط الضعف الحيوية في القاعدة، وأن العملية كانت تهدف لإيقاع أكبر عدد ممكن من الخسائر البشرية والمادية.
الجيش البنغلاديشي، الذي تُعد بلاده من أكبر المساهمين بقوات في عمليات حفظ السلام عالمياً، أصدر بياناً مقتضباً ومؤلماً، أكد فيه مقتل ستة من جنوده وإصابة ثمانية آخرين في ظل "أوضاع أمنية غير مستقرة". هذه العبارة المقتضبة تحمل في طياتها الكثير من الألم والغضب، وتعكس شعوراً بالخذلان من قبل المجتمع الدولي الذي أرسل أبناءهم إلى "محرقة" لم يوفر لهم الحماية الكافية فيها. الجهود الدولية الآن منصبة على تقديم الرعاية الطبية العاجلة للمصابين وتأمين عمليات الإخلاء، لكن السؤال الأهم يبقى معلقاً: من المسؤول عن هذه الدماء، وكيف سترد الأمم المتحدة على هذا الاعتداء السافر؟
"حرب البيانات".. الجيش يتهم والدعم السريع ينفي
بمجرد انتشار خبر المذبحة، انطلقت "حرب بيانات" لا تقل ضراوة عن القتال على الأرض. الجيش السوداني لم يتردد لحظة في توجيه أصابع الاتهام بشكل مباشر إلى عدوه اللدود، قوات الدعم السريع، معتبراً الهجوم "عملاً إجرامياً" و"انتهاكاً صارخاً" للقانون الدولي الإنساني.
الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة، العميد الركن عاصم عوض عبدالوهاب، وصف الهجوم بأنه يكشف عن "النهج التخريبي لمليشيا آل دقلو المتمردة ومن يقف خلفها". الحكومة السودانية سارت على نفس الخط، وأصدرت بياناً شديد اللهجة أدانت فيه الاستهداف، وحملت "الدعم السريع" المسؤولية الكاملة، مطالبة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي باتخاذ "إجراءات رادعة" ومحاسبة الجناة.
في المقابل، سارعت قوات الدعم السريع إلى نفي هذه الاتهامات جملة وتفصيلاً، ووصفتها في بيان مقتضب بأنها "عارية عن الصحة" ومحاولة من الجيش لتشويه صورتها وتوظيف دماء الأبرياء في صراعه السياسي. هذا النفي المتبادل يضع الأمم المتحدة في موقف حرج، حيث باتت مطالبة بإجراء تحقيق مستقل وشفاف لتحديد هوية الجناة، وهي مهمة شبه مستحيلة في ظل الظروف الأمنية المعقدة والتشابكات السياسية على الأرض، مما يرجح أن هذه الجريمة قد تُقيد ضد "مجهول"، لتصبح دماء الجنود البنغلاديشيين مجرد رقم في إحصائيات ضحايا النزاع السوداني.
كادوقلي "المنكوبة".. حصار ومجاعة في قلب إقليم استراتيجي
يأتي هذا الهجوم ليزيد من معاناة مدينة كادوقلي، التي تعيش تحت وطأة حصار خانق تفرضه قوات الدعم السريع منذ ما يقرب من عام ونصف. هذا الحصار حول المدينة إلى "سجن كبير"، وتسبب في انهيار كامل للخدمات الأساسية، وأدى إلى أوضاع إنسانية كارثية بلغت حد "المجاعة" التي أعلنت عنها الأمم المتحدة نفسها في نوفمبر الماضي. الهجوم على القاعدة الأممية، التي كانت تمثل شريان حياة لبعض المساعدات، يهدد بتعميق الكارثة الإنسانية ويدفع بالمدينة نحو المجهول.
أهمية كادوقلي لا تقتصر على وضعها الإنساني، بل تنبع من موقعها في قلب إقليم كردفان، الذي يُعد حلقة الوصل الجغرافية واللوجستية بين مناطق سيطرة الجيش في شمال وشرق البلاد، وإقليم دارفور غرباً الذي تهيمن عليه قوات الدعم السريع. السيطرة على هذا الإقليم تعني السيطرة على خطوط الإمداد الرئيسية لطرفي الصراع، وهو ما يفسر شراسة المعارك الدائرة فيه. تزامن الهجوم مع إعلان الجيش عن عمليات تمشيط في محيط المدينة، واستهداف آخر بمسيرة للمدخل الشرقي لمدينة الأُبيّض، يؤكد أن إقليم كردفان دخل مرحلة جديدة من التصعيد العسكري، وأن دماء "الخوذ الزرق" قد تكون مجرد بداية لمرحلة أكثر عنفاً ودموية في هذا الصراع الذي لا يرحم.

