في خطوة جديدة تؤكد إفلاس النظام السياسي والاقتصادي، وتُثبت أن "البيع" بات هو العقيدة الوحيدة التي تحكم "الجمهورية الجديدة"، أقرت حكومة السيسي حزمة جديدة من القرارات لطرح أصول الدولة الاستراتيجية في المزاد العلني. من أراضي السكك الحديدية التي كانت يومًا رمزًا لربط أوصال الوطن، إلى مطار الغردقة الدولي بوابة مصر السياحية، مرورًا بمحطات طاقة الرياح ومباني تاريخية كـ"قصر القطن". النظام يضع لافتة "للبيع" على كل شبر وكل صرح، ليس لبناء مصانع أو مدارس، بل لسد فجوة ديون صنعها بيده، ولإرضاء شروط صندوق النقد الدولي المجحفة.

 

هذا "التفريط الممنهج" في مقدرات الدولة، والذي يتم تحت شعار "تعظيم الاستفادة"، ليس سوى عملية "تسييل" واسعة النطاق لثروات الشعب المصري، وتسليم مفاتيح الاقتصاد الوطني لتحالفات أجنبية وصناديق سيادية، لا يهمها سوى الربح السريع وامتلاك النفوذ. إن ما يحدث ليس "إصلاحًا"، بل هو تجريف منظم للأصول الرابحة، وترك الدولة هيكلاً خاويًا بلا سيادة اقتصادية، في جريمة تاريخية يحذر الخبراء من أنها ستقود البلاد إلى كارثة أعمق وأخطر من أزمة الديون الحالية.

 

بيع "شريان الحياة".. السكة الحديد في المزاد

 

القرار الأخطر في الحزمة الجديدة هو السماح لهيئة السكك الحديدية ببيع 15 قطعة أرض بمساحة 73 ألف متر في قلب محافظات مصر (الإسكندرية، السويس، المنيا، وغيرها). هذه الأراضي ليست مجرد مساحات فضاء، بل هي أصول استراتيجية تقع في مواقع حيوية. بيعها بنظام "الحصة في الأرض" يعني التنازل النهائي عن ملكيتها، وتحويل مرفق خدمي قومي إلى "سمسار عقارات" يبحث عن السيولة لتغطية خسائره الناتجة عن سوء الإدارة.

 

إن التفريط في أصول السكك الحديدية هو مقدمة لخصخصة المرفق بالكامل، ورفع أسعار التذاكر بشكل جنوني، ليصبح تنقل المواطن البسيط سلعة خاضعة لمنطق السوق والمستثمر الأجنبي.

 

مطاراتنا تحت الوصاية.. الغردقة نموذجًا

 

إعلان وزارة الطيران عن طرح إدارة وتشغيل مطار الغردقة لتحالفات دولية هو اعتراف رسمي بفشل الإدارة الحكومية. ورغم التطمينات بأن الملكية ستظل للدولة، إلا أن التجارب العالمية، وتجربة مصر نفسها، تؤكد أن "الإدارة والتشغيل" هي البوابة الخلفية للسيطرة. تسليم مطار استراتيجي بحجم الغردقة لشركة أجنبية يعني وضع قطاع السياحة والأمن القومي في هذا المطار تحت رحمة قرارات خارجية.

 

الخبير الاقتصادي المعتقل عبد الخالق فاروق كان قد حذر بوضوح من أن بيع الأصول الاستراتيجية لدول وحكومات تلعب أدوارًا مشبوهة في الإقليم لن يخرج مصر من أزمتها، بل سيدفع بها لمزيد من المخاطر، تمامًا كما حدث في ملف سد النهضة.

 

https://www.facebook.com/abdelkhalek.farouk/posts/pfbid02zNSNeSdL3tmBizheNVh2zTg5UDzxruEhxogJFSwaahB8Dnm5MXJoamCBVfwyrG4wl

 

حصيلة هزيلة وبيع "بخس"

 

المفارقة المؤلمة التي كشفها صندوق النقد الدولي نفسه، هي أن حصيلة هذا البيع المسعور هزيلة للغاية. ففي عام مالي كامل (2023-2024)، لم تتجاوز الحصيلة 2 مليار دولار، وهو رقم لا يكفي لسداد فوائد الديون لشهر واحد! التوقعات تشير إلى انخفاض العوائد تدريجيًا في السنوات القادمة.

 

هذا يعني أن الحكومة تبيع "درة التاج" من الأصول الاستراتيجية (بنوك، شركات أسمدة، محطات طاقة) بأسعار بخسة، وفي توقيتات سيئة، فقط للحصول على "مسكنات" دولارية مؤقتة تتبخر فورًا في سداد الديون. إنها تضحية بالمستقبل من أجل تمرير الحاضر الكارثي.

 

تسليم مفاتيح الدولة للأجانب

 

التقارير الاقتصادية والباحثة بيسان كساب من معهد التحرير يحذرون من أن الخصخصة الحالية تعني "تخلي الدولة عن قطاعات كاملة". بيع محطات طاقة الرياح في جبل الزيت، ومحطات سيمنز، وشركات الأسمدة، يعني أن المستثمر الأجنبي سيتحكم في فاتورة كهرباء المواطن، وفي سعر سماد الفلاح، وفي رغيف الخبز.

 

إن تحويل الدولة إلى مجرد "جابي ضرائب" وترك الاقتصاد رهينة لرأس المال الأجنبي والساخن، هو تهديد مباشر للأمن القومي الغذائي والاقتصادي. الحكومة لا تملك رؤية إنتاجية، بل تعتمد على الحل الأسهل: بيع ما بناه الأجداد، والاقتراض على حساب الأحفاد.

 

خاتمة: إيقاف النزيف قبل فوات الأوان

 

إن سياسة "بيع مصر" التي ينتهجها نظام السيسي ليست حلاً للأزمة، بل هي الأزمة ذاتها. استبدال الديون ببيع الأصول هو دوران في حلقة مفرغة تنتهي بتجريد الدولة من كل ما تملك.

 

المطلوب اليوم ليس مزيدًا من المزادات، بل وقفة وطنية حازمة لوقف هذا العبث بمقدرات الشعب، ومحاسبة من أوصل البلاد إلى حافة الإفلاس، والبحث عن حلول إنتاجية حقيقية تعتمد على سواعد المصريين لا على جيوب المستثمرين الأجانب. وإلا، فإننا سنصحو يومًا لنجد أننا ضيوف في وطننا، ندفع إيجار إقامتنا لمن اشترى الأرض والمصنع والمطار.