في واحدة من أحلك الوثائق التي تكشف عن حجم "الجريمة الاقتصادية" التي ترتكب بحق مصر، كشفت تقارير رسمية حديثة عن الكلفة الباهظة لسياسات الاقتراض العشوائي التي أدمنها النظام الحالي. لم يعد الأمر يتعلق بمجرد أرقام صماء، بل بمستقبل مكبل بالقيود لعقود قادمة. فوفقًا للبيانات، ستظل مصر تدفع ثمن "رفاهية القصور والمشاريع الفنكوشية" حتى عام 2071، بإجمالي التزامات تصل إلى 176.9 مليار دولار، منها رقم كارثي يمثل "ضريبة الفشل" وحدها: 53 مليار دولار عبارة عن فوائد فقط!
هذا التقرير الصادر عن البنك المركزي ليس مجرد كشف حساب، بل هو "صك عبودية" وقعته حكومة الانقلاب نيابة عن أجيال لم تولد بعد، محولة الاقتصاد المصري إلى مجرد "آلة جباية" تعمل لصالح الدائنين الدوليين، حيث تذهب ثروات البلاد لسداد فوائد ديون لم يرَ المواطن أثرها في تعليمه أو صحته أو معيشته.
30 % من أموالنا.. وقود لمحارق الديون
الرقم الأخطر في التقرير هو أن الفوائد وحدها (52.974 مليار دولار) تشكل ما نسبته 30% من إجمالي الالتزامات. هذه النسبة المرعبة تعني شيئًا واحدًا: أن ثلث الجهد والعمل والإنتاج المصري يذهب هباءً، لا لسداد أصل الدين، بل لمجرد خدمة الدين.
إنها "الإتاوة" التي يدفعها الشعب نتيجة لسوء إدارة الملف الاقتصادي، واللجوء للاستدانة كحل وحيد وأسهل لتغطية العجز. تخيل أن 53 مليار دولار – وهو مبلغ يكفي لبناء مئات المستشفيات والجامعات أو إنشاء قواعد صناعية عملاقة – سيتم حرقها بالكامل كفوائد بنكية، بينما تطالب الحكومة المواطن المطحون بالتقشف وتحمل "الفاتورة". هذا الرقم ينسف أي حديث عن التنمية؛ فلا يمكن لاقتصاد أن ينمو وثلث التزاماته عبارة عن "هواء" لا يقابله أصل أو خدمة.
عام 2026.. "المقصلة" تقترب
بينما يتحدث النظام عن "الجمهورية الجديدة"، تشير جداول السداد إلى أن النصف الأول من عام 2026 سيكون بمثابة "عنق الزجاجة" الذي قد يخنق الدولة، حيث يتجاوز إجمالي السداد في هذه الفترة الوجيزة 18 مليار دولار. هذا التكدس في مواعيد الاستحقاق يكشف عن غياب أي رؤية مستقبلية لجدولة الديون، ويضع البلاد أمام سيناريوهات مرعبة: إما مزيد من بيع الأصول الاستراتيجية والتفريط في السيادة، أو التعثر الذي يعني انهيارًا ماليًا كاملًا.
إن تركيز ذروة السداد في السنوات القليلة القادمة يعني أن الحكومة ستكون مضطرة لامتصاص كل دولار يدخل البلاد، سواء من تحويلات المصريين أو قناة السويس، لتسليمه للدائنين، مما سيؤدي حتمًا إلى شح العملة وتدهور قيمة الجنيه ومزيد من الغلاء الفاحش.
إرث ثقيل حتى 2071.. بيع المستقبل
لعل الجانب الأكثر مأساوية هو الامتداد الزمني لهذه الالتزامات. حين يمتد جدول السداد حتى عام 2071، فهذا يعني أن الأحفاد الذين لم يولدوا بعد سيأتون إلى الدنيا مدينين لنظام رحل منذ عقود. إنها عملية "سطو تاريخي" على مقدرات المستقبل.
ورغم أن التقرير يستند إلى سعر صرف 30 يونيو 2025، إلا أن الواقع يؤكد أن أي تدهور جديد في سعر العملة سيضاعف هذه الأرقام محليًا، مما يجعل الفاتورة أثقل وأكثر قسوة على الموازنة العامة التي باتت عاجزة عن توفير أبسط الحقوق كالتعليم والصحة.
أوهام "التحسن" والمخدرات الرقمية
في محاولة لتجميل الصورة القبيحة، يحاول النظام الترويج لـ"تحسن المؤشرات"، مثل انخفاض عجز الحساب الجاري وارتفاع الاحتياطيات إلى 50.2 مليار دولار. لكن المراقبين يدركون أن هذا "التحسن" هش ومصطنع؛ فارتفاع الاحتياطي يعتمد بنسبة كبيرة على الودائع والقروض الجديدة (بما فيها أموال صفقة رأس الحكمة)، وليس على إنتاج حقيقي مستدام. وانخفاض العجز جاء نتيجة خنق الاستيراد وتعطيل المصانع، لا نتيجة طفرة تصديرية حقيقية تكفي لتغطية خدمة الدين.
إن ما تصفه الحكومة بـ"القدرة على مواجهة التحديات" ليس سوى قدرة على "الاستدانة لسداد الدين"، في حلقة مفرغة لا تنتهي إلا بانهيار شامل.
خاتمة: الخروج من النفق المظلم
إن نسبة الـ 30% فوائد هي دليل إدانة دامغ على فشل إدارة الانقلاب في ملف الاقتصاد. لقد حولوا مصر من دولة رائدة إلى دولة "تسول"، تعيش يومها بالديون وتبيع غدها بالفوائد. هذا النزيف المستمر لن يتوقف بالمسكنات أو التصريحات الوردية، بل يتطلب وقفًا فوريًا لمحرقة الاقتراض، ومحاسبة من ورط البلاد في هذا المستنقع الذي سيعاني منه المصريون لنصف قرن قادم.

